يوزّع سامي أحمد شواغله الإبداعية بين فضائين كثيراً ما انجدلا معاً؛ فهو عمله كناشر وصاحب دار نشر (التكوين) في دمشق، التي أمست منذ عقود واحدة من أبرز دور النشر السورية، والتي وصل حصادها ونتاجها الإبداعي إلى مختلف مناطق العالم العربي. وفي مساوق عمله في النشر، لم ينس أن يصدر مجموعة شعرية كلما حلّ: (عميل التعب – 2003) ، أو خذلتني النجوم – 2005، وكلما تصاعد (دُخان – 2002)، أو في (صلاة المطر – 1999)، وأيضاً (شُبّه لي، والحياة مهنة تافهة).

تضم مجموعتان شعريتان في ذات السياق الشعري أسلوب كتابة القصيدة، حيث تميلان إلى الطول وتحتوي كل منهما على بضع قصائد، لكن وحتى لا يخرج عن سمة "الأدب الوجيز" التي اعتادها، فهو يمشي بها بتفرعات ويوزعها إلى مقاطع قصيرة، تتميز كلّ منها بسمات أسلوبية تتيح استقبالها كقصيدة مستقلة.

"سامي أحمد"، الذي قدم من جبلة إلى دمشق منذ زمن طويل، بقي وفياً للشعر، وما يزال يصدر بين الحين والآخر مجموعة شعرية، تأتي كوفاء لتلك الجبال الخضراء في (حرف المسيترة) في ريف اللاذقية، حيث الشعر يُعادل تلك المشاهد التي أمست قصية لأسباب كثيرة.

من مؤلفات سامي أحمد

"آتٍ..

الشاعر سامي أحمد

من حيث يُبعث الفراغ

الناقد عمر الشيخ

بلا أسماء.. والريح ظلي..

فمن كانت الريح ظلهم

لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".

يكتب سامي أحمد بلغة لا تخضع لأي من نماذج الشعر التقليدي، ولا تسعى إلى التجريب من أجل التجريب. يكتب بلغة نثرية صادمة أحياناً ببساطتها، لكنها تُراكم المعنى بالصورة والانزياح، لا بالإيقاع أو البلاغة التقليدية.

يقول سامي أحمد في حديثه لمدومة وطن :"لأنّ الشعر فن، يجب أن نحافظ عليه ولا نجعله مهنة، من هنا اعتبرت نفسي غير مقل، فالإكثار من أي شيء يفقده طعمه حتى ولو كان شعراً."

من هنا، فالشعر — برأيه — كيفي وليس كمياً، وديوان (أوراق العشب) للشاعر الأمريكي وولت ويتمان الصادر سنة 1856 لا يزال يُقرأ حتى الآن بمتعة، وتدور الدراسات عليه من الشرق إلى الغرب، وعذابه مالئ الدنيا وشاغل الناس، ولم يكتب غيره في حياته. لذلك فهو يعتبر الكتابة رغبة، والنشر نشوة هذه الكتابة، ويؤكد: "أريد أن أبقى في الرغبة، كي أكتب خارج حسابات النشر؛ هذا مسموح وذاك ممنوع."

وأضاف.. زمن الشعر لا يزال حياً بالقصائد، ولكن الشعر الرسمي اليوم الذي يُنتج في العالم العربي في معظمه مهووس بالخطابات والبلاغات، وليس معنيّاً بجمالية الأشياء في الشارع. فالشعر بالنسبة له كائن يعيشه أكثر مما يكتبه، ويراه منثوراً على الأرصفة وليس في الصالونات والمراكز الثقافية.

ثمة واحدة من أبرز تقنيات سامي أحمد هي اللعب بـ"الزمن" في صيغ غير مألوفة، حيث تتكرر تعبيرات مثل: "بتوقيت الرحى"، "على السكة القديمة"، "بتوقيت مصرف سورية المركزي"، "على سكة الحجاز". هذه التراكيب لا تشير فقط إلى توقيت زمني، بل هي استعارات زمنية/مكانـية لحالات شعورية غارقة في العبث، الانكسار، التكرار، والمأساة.

"هل شربتَ دمعاً حتى بكيت؟

على توقيت الحجارة."

في هذه العبارة، يجعل من البكاء على الحجارة وحدة زمنية، إشارة إلى الجفاف العاطفي، الصلابة التي لا تتفتت، وإلى زمن لا يُقاس بالساعات بل بثقل الألم المتراكم. الزمن في نصوص سامي أحمد لا يسير، بل يتراجع أو يدور في مكانه:

يقول الناقد عمر الشيخ عن مجموعة (شُبّه لي):

"لا يقلد سامي أحمد أحداً في تكوين مجموعته، فكلما أحسست أنك ستجد خاتمة في هذه القصيدة أو تلك، تتركك الأسئلة أسير الشعر والحيرة، وكلما انسقت بتيار النص الطويل، تمر أمام عينيك سيارة صاروخية لخطف الإجابة وتعليقك مجدداً في دوامة التجريب الحسي، حتى إنك تسأل قبل أن تنام كشاعر أو كعابر أو كقارئ:

لمَ عليَّ

أن أفرغَ من الشعر،

عندما أذهب إلى النوم."

ويضيف الشيخ: "لا ينتمي الشاعر إلى جيل شعري معين، فهو يتدارك السقوط في الكنايات والتشابيه، ويذهب نحو اللقطة الخاطفة والنبرة الحادة، حيث تنبض قصيدته باللحظة دون ارتباطها بزمن معين، لأن تلك التراكمات التي يتناوش عليها شعراء قصيدة النثر لا تعنيه كثيراً."

فهو لا يمل ساكناً وجه الريح، وعابثاً بما شاء مع التفاصيل الصغيرة، يكتب في زاوية ما خلف كرسي، تحت شمس ثانية، بحزن عن طفولته البعيدة ويرفع القبعة لشيخوخة مبكرة تجولت في أروقة قلبه. ويتنوع شكل النص في مجموعة (شُبّه لي) بين المقاطع القصيرة المتتالية ضمن عنوان واحد مثل (تعريفات) و (فراغات) ، وكذلك القصائد الممتدة بوحدة نصية سردية يحكمها حدث متصاعد مثل (له) و (غبار إلى دمشق) وفي كلا النموذجين نتلمس جواً خاصاً ينسجه الشاعر بين بساطة المفردات وقسوة الجمل الشعرية التي تشبهه.

يُعرّف الشاعر نفسه في أحد النصوص بـ"ناشر لا تنتهي يومياته"، وكأنه ينشر المعاناة بصمت، دون ضجيج أو لافتة. فهو لا يمثل جماعة، ولا ينطق باسم أحد، بل يسرد ذاته المكسورة بطريقة تجعلها جماعية

هذه الصورة تلخص كل شيء: لا أمل، لا تخطيط، لا مشروع، فقط اجترار للأحلام القديمة ثم رميها، مع إدراك تام بتفاهة المشهد العام. وفي نص فلسفي بامتياز، يقول:

"خسرنا حين ولدنا، كل شيء.

على السكة نفسها."

ليس هناك لحظة "سقوط" حدثت لاحقاً، بل الخسارة هي الأصل، هي الولادة ذاتها،والسكة؟ ما تزال نفسها، لم تتغير، ولم تغير اتجاهها، فقط ازدادت صدأً.

تأتي تجربة الشاعر سامي أحمد كجزء من موجة شعرية سورية تمزج النثر بالحكمة، والسخرية بالحداد، واليومي بالرمزي، وتشارك فيها أسماء كثيرة من الشعراء الذين برزوا منذ بداية الألفية الثالثة، ممن اختاروا القصيدة ملاذاً وجودياً لا عرضاً جمالياً. وما زال سامي أحمد يكتب من مكان ما في هذه الخريطة المعتمة، "على السكة نفسها"، "بتوقيت الحجارة"، "بصوت خافت لا يحتاج إلى مكبرات صوت"، لكنه مسموع — لمن بقي يصغي للشعر في عالم يذهب صوب التصحر واليباس.