في ريف المالكية، حيث تمتد الأرض بهدوئها وعمقها، تنبض "نبعة النساء" كقلبٍ قديم لم يتوقف عن العطاء. عند ضفافها وُلدت قرية "كنكلو"، ومن مياهها حملت النسوة الحياة على أكتافهن، فبُنيت البيوت الطينية، ونمت حولها حكايات لا تشيخ.
هي ليست مجرد عين ماء، بل ذاكرة حيّة للنساء اللواتي رافقنها جيلاً بعد جيل، غسَلن عندها أثوابهن وأوانيهن، وارتشفن منها القوة قبل الماء. من تلك اللحظات البسيطة نُسجت علاقات الودّ والتكافل، وصار للنبعة اسم يليق بها: "نبعة النساء".
لولا النبعة لما قامت "كنكلو". بيوتنا من الطين، والطين يحتاج إلى الماء. والنسوة كُنّ يحملن جرار الماء من النبعة إلى أماكن البناء، يقطعن المسافة مراراً وتكراراً، حتى ارتفعت البيوت واحداً تلو الآخر. من تلك الجهود تأسست قرية بأكملها
وحتى اليوم، ما تزال النبعة تحتفظ بمكانتها في أطراف القرية، كأنها أمّ صامتة تروي قصة تأسيس "كنكلو"، وتشهد على فضل نسائها اللواتي جعلن من الماء بيتاً، ومن التعب حياة.
بداية مجهولة
قبل أن تُشيَّد بيوت "كنكلو"، وقبل أن يُخطَّ اسمها على خرائط الريف، كانت النبعة هناك، تسبق الزمن وتجاور الحدود العراقية – التركية. لم يعرف أحد متى وُلدت، لكنها عاشت أكثر من قرن، شاهدةً على تبدّل الأيام. ومنذ اللحظة الأولى ارتبطت بالنساء، فصار اسمها "نبعة النساء"، مقابل نبعٍ آخر خُصص للرجال. لم يكن الذكور يقتربون منها، فهي للنسوة وحدهن، لهن حصراً حق الماء وطقوسه.
ماء يبني البيوت
يقول الحاج "عبد الحليم عيسى"، أحد وجهاء القرية وأقدم سكانها:
«لولا النبعة لما قامت "كنكلو". بيوتنا من الطين، والطين يحتاج إلى الماء. والنسوة كُنّ يحملن جرار الماء من النبعة إلى أماكن البناء، يقطعن المسافة مراراً وتكراراً، حتى ارتفعت البيوت واحداً تلو الآخر. من تلك الجهود تأسست قرية بأكملها».
لم تكن تلك الرحلة سهلة؛ التعب والإرهاق كانا رفيقَي كل خطوة، لكن النساء مضين بصبرٍ لا ينفد. وحين ارتفعت الجدران وامتلأت القرية بالحياة، كان الفضل محفوراً باسمهن وباسم النبعة التي سقت البدايات.
ذاكرة نسائية لا تشيخ
لم تقتصر النبعة على الماء والبيوت، بل كانت مسرحاً اجتماعياً بامتياز. هناك التقت النساء يومياً، ينجزن شؤون المنزل، يغسلن الملابس والأواني، ويستقين للشرب والطهو. كل وليمة في بيت، وكل عرس في القرية، كان يبدأ من ماء النبعة.
"خديجة سيد علي"، امرأة سبعينية من القرية، تحتفظ بذاكرة مليئة بالقصص، ترويها اليوم لأحفادها، أضافت لمدوّنة وطن:
«كنت في بداية العشرينات حين اعتدت زيارة القرية. لم تكن النبعة مجرد ماء، بل ساحة للحياة. كنا نتعاون، نضحك، نتبادل القصص، ونتقاسم التعب. إذا كان هناك عرس أو بناء بيت جديد، كانت الأيدي تتشابك، كأن الماء يوحّدنا. حتى الزائرات مثلنا لم يترددن في المشاركة. كانت لحظات إنسانية لن أنساها ما حييت».
رمز يتجاوز الزمن
اليوم، لم تعد النبعة المصدر الوحيد للماء، لكن حضورها ما زال طاغياً. يزورها الناس رجالاً ونساءً، ليس لحاجتهم المعيشية كما في الماضي، بل لأنها صارت رمزاً للذاكرة الجماعية، ومرآةً لدور النساء اللواتي حملن على أكتافهن بداية قرية كاملة.
"نبعة النساء" ليست عين ماء فقط، إنها عينٌ تروي، تحفظ الحكاية، وتمنح الأجيال معنى التعاون والوفاء. فحيث تدفقت مياهها، وُلدت "كنكلو"، وحيث اجتمعت النسوة، وُلدت القرية من جديد كل يوم.
مدوّنة وطن "eSyria" بتاريخ 18 أيلول 2025 زارت القرية وأجرت اللقاءات السابقة.