على الضفة الشرقية لبحيرة طبريا، تتربّع قرية الدوكة في الجولان كبيارة خضراء امتدت على مساحة أربعة كيلومترات، تنوّعت بين الخضروات وأشجار الزيتون والحمضيات.
واليوم، تروي حجارة بيوتها البازلتية المهدّمة تاريخًا مجيدًا يعبق بحكايا الماضي التليد لأبنائها، ومجزرة لا تزال شاهدة على همجية الاحتلال وغطرسته.
موقع استراتيجي
يقول الباحث في تاريخ الجولان تيسير خلف إن قرية الدوكة تتبع لناحية البطيحة، وتقع فوق تلة مرتفعة على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا ويحيط بها من الشمال قرية المسعدية، ومن الجنوب قرية الكرسي، ومن الشرق شقيف، ومن الغرب بحيرة طبريا.
تبعد القرية خمسة كيلومترات إلى الجنوب من بلدة المحجار، وأربعة كيلومترات عن قرية قطوع الشيخ علي، وكان عدد سكانها قبل عام 1967 يبلغ نحو 504 نسمة.
تنخفض القرية عن مستوى سطح البحر بنحو 200 متر، إذ تُعدّ من القرى القليلة الارتفاع عند مصب وادي دير عزيز على الحدود السورية – الفلسطينية.
ويضيف خلف أن اسم الدوكة هو تسمية حديثة لمدينة قديمة تُعرف بـ "كفر عاقب"، وقد ذكرها أبو الطيب المتنبي في معرض حديثه عن محاولة اغتيال دبّرها له كافور الإخشيدي ، بعد أن بالغ في هجائه، فقال:
أتاني وعيدُ الأدعياءِ وأنـهــم
أعدّوا ليَ السودانَ في كفرِ عاقِبِ
ويوضح الباحث الدكتور عرسان عرسان أن بحيرة طبريا تُعدّ الخزان المائي الطبيعي في المنطقة، فضلًا عن كونها شريانًا مائيًا ضخمًا لفلسطين والأردن ومن هنا، كانت القرى المجاورة للبحيرة، ومنها الدوكة، غنية بالمياه، إذ تصب فيها عدة أودية مائية من الجولان المحتل.
وأضاف..قرب الدوكة من البحيرة جعلها نقطة مرور للمناطق المجاورة، ومن أهم الأودية التي تمر بها:وادي شقيف، الذي يبدأ من قطوع الشيخ علي ويمر بالقرية ليصب في البحيرة فيما يبدأ وادي السماط، من القرية ويتجه إلى البحيرة ويأتي وادي السمك، من قرية الكرسي ويمر في منتصف الدوكة لمسافة طويلة.
تطور عمراني وحياة هادئة
يتحدث الحاج حسين فلاح التيم (أبو علي) ، أحد أبناء قرية الدوكة المولود عام 1951، عن تفاصيل الحياة في قريته قبل الاحتلال، فيقول:
"كانت منازل القرية قديمة ومتنوعة بين الحجارة البازلتية والطين والخشب، ومع عام 1958، زمن الوحدة السورية المصرية، بدأت تظهر وحدات سكنية حديثة، وشهدت القرية نهضة خدمية تمثلت بتوفير الكهرباء وضخ المياه" غير أن هذه النهضة لم تدم طويلًا، إذ تعرضت القرية للتدمير وتهجير سكانها عام 1967.
ويضيف التيم: "كانت مدرستنا تقع على تلة مرتفعة وسط البلدة، وتتألف من طابقين يُدرَّس فيها من الصف الأول حتى السادس. كانت مبنية من البلوك والإسمنت، وفيها خزان مياه ومضخة تضخ المياه من العين إلى التلة اعتمادًا على الكهرباء. كان المعلمون يأتون من القرى المجاورة عبر طرق وعرة غير معبّدة، خاصة من قرية الكرسي. كما كان في القرية مسجد من الإسمنت قصده سكان القرى المجاورة، بُني أيام الوحدة السورية المصرية".
زراعة خصبة وحياة كريمة
يشير أبو علي التيم إلى أن السكان كانوا يعتمدون في معيشتهم على الزراعة بشكل رئيسي، فزرعوا الخضروات والحبوب التي كانت تُروى من قناة قديمة ومن مياه البحيرة.
ويضيف: "انتشرت زراعة الموز في القرية قبل النزوح بخمس سنوات، وكانت هناك بيارة كبيرة يملكها أحمد هلال. تميزت تربة القرية بلونها الأحمر البركاني وخصوبتها العالية، فسمّيت المنطقة الشرقية منها بالحميرية" كما ربّى الأهالي الأبقار والأغنام واعتمدوا أيضًا على صيد السمك.
أما بعد النزوح، فيروي التيم معاناتهم قائلًا: "انتشرنا في محافظات عدة كدرعا وريف دمشق وحمص ودمشق. درست في درعا بعد النزوح وأقمنا هناك خمس سنوات، ثم استقرّينا في ريف دمشق حتى اليوم" ومن أبرز العائلات في القرية هي: العيايدة، البراهمة، الحمامدة، العواودة، الشبايطة، وفيها أيضًا عائلة فلسطينية تُدعى ذيب الحسين.
إرث وعادات متجذّرة
يقول التيم إن الأهالي حافظوا على إرثهم وعاداتهم منذ الأجداد، فـ فنجان القهوة المُرّة كان رمز المحبة والتماسك الاجتماعي وكانت المضافات الجولانية بمنزلة البيت الواحد لأبناء القرية، وأشهرها مضافة المختار عوض المحمود، التي كانت ديوانًا جامعًا للجميع.
كما أُقيمت في القرية حلقات علم وتحفيظ قرآن كريم بإشراف الشيخ سليمان الويس، خطيب الجامع القادم من قرية أم السنابر المجاورة، وكان فيها مقام الخضر الذي يقصده الأهالي.
ويتابع التيم حديثه عن العادات الاجتماعية قائلًا: "كانت الأعراس تستمر سبع ليالٍ، وتُوجَّه الدعوات عبر بطاقة واحدة توزَّع على كل القرية، ليجتمع الجميع على وليمة المناسف. أما المهور فكانت تعتمد على المواشي كالأغنام والأبقار، ثم أصبحت تُقدَّر بالليرة الذهبية ، وكانت تساوي نحو 900 ليرة كمقدَّم ومؤخَّر مهر".
مجزرة الدوكة... جرح لا يندمل
يوضح الباحث تيسير خلف أن قرية الدوكة شهدت مقاومة شعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته، وكانت مجزرة الدوكة التي وقعت صباح 2 تشرين الثاني عام 1955 في منطقة البطيحة من أوائل المجازر في الجولان.
ويقول خلف:"كان الهدف من المجزرة بثّ الرعب في نفوس أهالي القرية، الذين امتهنوا الزراعة وصيد السمك، ودفعهم إلى الابتعاد عن مياه بحيرة طبريا تمهيدًا لجعلها إسرائيلية خالصة" حيث اقتحم الجنود الإسرائيليون القرية وجمعوا من استطاعوا من أبنائها، واختاروا عشرة أشخاص – تسعة رجال وامرأة واحدة – وأمروهم بالوقوف في صف واحد على مرأى من الأهالي، ثم أطلقوا النار عليهم من الخلف.
وأضاف..اختلطت صرخات الموت بعربدات المجرمين، وسقط الجميع شهداء، ومن بينهم المرأة الوحيدة مريم عوض الكريم ونجا من المجزرة شابان، أحدهما سليمان محمود العلي، الذي أصبح لاحقًا مختارًا للقرية وشاهدًا حيًا على الجريمة، ولا تزال آثار الرصاص في جسده حتى اليوم.
الذاكرة الحيّة
هكذا تبقى الدوكة القرية الخضراء التي عانقت مياه طبريا – حكاية لا تُنسى، شاهدة على جمال الأرض ومرارة الفقد، وعلى جيلٍ ما زال يروي لأبنائه قصة قريته التي كانت جنة على الأرض... قبل أن تُحرقها اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي وتبقى صورتها خالدة في ذاكرة الجولان.