يُعدّ "سوق اليعربية القديم" أحد أقدم الأسواق على مستوى المنطقة، وكان رابطاً حيوياً بين الحدود السورية والعراقية،استثمر محلاته تجّار من عديد المحافظات السورية، لكن اليوم لم يبقَ منه سوى الأثر وذكريات كبار السن، فالجدران الترابية المتبقية تروي حكاية سوقٍ كان يوماً ما القلب النابض للتجارة في محافظة الحسكة.
يبقى السوق الأبرز والأهم في المنطقة
ذلك السوق لم يكن مجرد مكان للبيع والشراء، بل كان ملتقى لأهل القرى والبلدات، ومعبراً للألفة بين الشعبين الشقيقين
رغم مضي عشرات السنين على السوق واندثاره بشكلٍ شبه كامل، إلا أن شكله بمحلاته القديمة ما زال قائماً في مكانه، وكأنه يروي للمارة قصته وحكايته عبر الزمن ويبقى السوق الأبرز والأهم في المنطقة، خاصة وأن طريقه كان يمتد من البلدة السورية إلى داخل الأراضي العراقية، كما يؤكد أحد أبناء البلدة يقول السبعيني أحمد المحمّد وهو من الذين عاصروا السوق وعبروا من خلاله إلى العراق:
«هذا السوق بعمر البلدة، وربما أقدم من تأسيسها، ويصل عمره لأكثر من تسعين عاماً حينها كانت الحدود مفتوحة على بعضها، وبلدتنا ملاصقة لمدينة "ربيعة" العراقية وطريق هذا السوق – الذي يُعد أقدم سوق – كان يصل إلى داخل العراق. ولأننا منطقة حدودية، فكانت الرغبة كبيرة عند التجار للتواجد عندنا حيث ضمّ السوق بين 25 إلى 30 محلاً من مختلف البضائع والمواد، وكانت المحلات مصنوعة من الطين واللبن، وهي المواد المستخدمة في الماضي البعيد، وما زالت المحلات حتى اليوم على ذات الصورة».
تجارة عابرة للحدود
ويتابع أحمد المحمّد حديثه عن طبيعة النشاط التجاري في السوق قائلاً:
«أغلب أصحاب المحلات كانوا يعتمدون على الحركة التجارية، يأتون بالبضاعة من العراق، والعكس أيضاً من سوريا، إذ يذهبون بمواد لا تتوفر في الدولة الجارة، أي تبادل تجاري خالص، فكان في تلك المحلات ملابس ومواد غذائية وتمور وعبايات وأصناف أخرى يحتاجها الناس، كان السوق نشطاً جداً، ولا تتوقف حركة العبور والذهاب والإياب على مدار اليوم. طبعاً أغلب الرحلات التجارية من الناس بين بلدتنا والعراق كانت سيراً على الأقدام أو عبر الدواب».
ويضيف بابتسامة يملؤها الحنين: «ذلك السوق لم يكن مجرد مكان للبيع والشراء، بل كان ملتقى لأهل القرى والبلدات، ومعبراً للألفة بين الشعبين الشقيقين».
الجيل الجديد يبحث الذكريات الجميلة
أما الأربعيني محمود المحمود من أبناء البلدة، فيقول إنه لم يعاصر السوق لكنه يسعى دائماً لمعرفة تفاصيله من كبار السن:
«لم أعاشر مرحلة حركة السوق القديم في بلدتنا، لكنني سمعت عنه الكثير من خالي ومقربين آخرين ومن كبار السن،حتى أنني أخصص وقتاً للجلوس معهم للتعرف على السوق بأدق تفاصيله،من جانبي، سردت لأبنائي واقع السوق كما روي لي. نحن نعدّ السوق رمزاً مهماً في بلدتنا، لا يمكن نسيانه أو تجاهل ما قدّمه. أكثر من ذلك، هناك زيارات معنوية للسوق للتعرف على طريقة بنائه وشكل جدرانه الطينية وطريقة تصميمه، كلها تحكي حكاية عن الماضي البعيد. رغم عدم توفر المواد وقِلّتها، أسّس الأقدمون سوقاً مثالياً كان يربط دولتين مع بعضهما، فبلدتنا الصغيرة كانت عبر سوقها الترابي نقطة عبور لإحدى الدول العربية الكبيرة».
اليوم، لم يبقَ من السوق سوى جدران طينية تذكّر بالماضي المجيد، لكنها بالنسبة لأهالي البلدة أكثر من بقايا طين؛ إنها شاهد على تاريخٍ طويل من التبادل التجاري والاجتماعي والثقافي بين الشعبين السوري والعراقي.
النساء جزء من ذاكرة السوق
ولم يكن السوق حكراً على الرجال، بل كانت النساء حاضرات فيه بقوة، سواء للشراء أو لتبادل الهدايا مع أقاربهن في العراق وتقول مريم الحسن، من أهالي بلدة اليعربية، عن تجربتها: «بيننا وبين العراق كانت علاقات اجتماعية وقرابة وأهل، لذلك في كل زيارة لي كنتُ آخذ من سوقنا هدايا لا تتوفر في العراق، أعدّ تلك الفترة من أجمل لحظات حياتنا،حقاً كان السوق تجربةً اجتماعية طيبة لأهالي البلدة. فالكثير من أبناء المحافظات الأخرى عاشوا مع أهلهم سنين طويلة، وأصبحت بيننا علاقات قائمة حتى تاريخه».
مدوّنة وطن “eSyria” زارت بتاريخ 22 أيلول 2025 بلدة اليعربية في محافظة الحسكة الواقعة على الحدود العراقية، وأجرت اللقاءات السابقة مع الأهالي الذين حملوا في ذاكرتهم قصة هذا السوق العريق.