من بلدة صدد في ريف حمص، كانت الولادة سنة 1950، حيث وعى الحياة والمشاهد الأولى في تلك القرية الوادعة، ثم كانت النقلة الثانية إلى دار المعلّمين في حمص، فإلى دمشق معلّماً وطالباً جامعياً، قبل أن ينضمّ إلى طائفة "الكتّاب الصحفيين السوريين" منذ سنة 1970، وذلك بعد نيله إجازتين جامعيتين؛ الأولى في اللغة العربية، والثانية في الصحافة.
نتاجات إبداعية ثرية
يقول الكاتب والصحفي سعد الله بركات إن هذه التنقّلات بين صدد وحمص ودمشق شكّلت له منجماً إبداعياً لا ينضب، إذ أتاحت له أن ينحت تجربته في الكتابة على مختلف أشكالها، لاسيّما في التوثيق والقصة القصيرة والصحافة قبل أن يغادر إلى دنيا الاغتراب ليكمل مشروعه الإبداعي من مسافة بعيدة عن سورية، متّجهاً نحو كتابة أوراق الاغتراب، مستحضراً نفحات الحنين الحارقة التي طبعت أدب المهجر في النصفين الأخيرين من القرن التاسع عشر والأول من القرن العشرين، خصوصاً في مهاجر الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية.
كلّ تلك النقَلات أغنت الرصيد الإبداعي للكاتب بركات، فكان من حصاده مجموعة من الكتب المتنوّعة بين البحث والأدب، من أبرزها:"أوراق من وجع الغربة" – بيروت، 2022"صدد: ريادة وإبداع" – دار أندلس، حمص، 2024 "إبداع ومبدعون" – دار ليلك برس، 2025.
كما أصدر كتابه النقدي "النص بين الشكل والمضمون" – دار اسكرايب، القاهرة، 2024 وكان قد نشر أول مجموعة قصصية بعنوان "باقة وبطاقة" ضمن موسوعة ملتقى الشعراء العرب – محطات من الذاكرة، دار اسكرايب، 2024.
صدد المقيمة في الذاكرة
ثمّة شيء هائل من الجاذبية يشدّ الإنسان نحو مسقط الرأس، نحو مرابع الطفولة ومنحنيات الضيعة الأولى. والكاتب "سعد الله بركات" من أولئك الذين لم تفارق قراهم أرواحهم، فكانت "صدد" حاضرة في ذاكرته وكتاباته على الدوام.
ورغم ابتعاده عنها، بقيت صدد عالقة في تلافيف روحه، فكانت له أول محاولة توثيقية لتاريخها وتطوّرها، ولقراها الست التي تُحيط بها كالسوار بالمعصم. وقد خلدها في كتابه (صدد: ريادة وإبداع) ، وهو عمل موسوعي بحثي وظّف فيه خبرته الصحفية لتوثيق أحداث وشخصيات كان لها الأثر الواضح في تطوّر صدد وازدهارها.
كما وثّق بركات مبادرات أهلية وجمعيات اغترابية صددية على مدى مئة عام، وأضاء على عشرات المواهب الفنية وآلاف المتفوّقين من أبناء القرى الست المتوزّعة في ريف حمص الشرقي الجنوبي، لا سيّما أولئك الذين تابعوا تحصيلهم العلمي في الوطن وفي بلاد الاغتراب.
وسبق أن قدّم توثيقاً بصرياً لهذه القرى من خلال الفيلم الوثائقي (حكاية صدد.. حكاية وطن) الذي أنتجته الفضائية السورية عام 2019.
كحلون.. ذاكرة الطفولة
وفي حديثه عن "كحلون"، تلك الهضبة الجرداء الواقعة على مبعدة كيلومترين شمال بلدة صدد، يكتب بركات عنها بأسلوب شعري قائلاً:
"إنها، مثل كل أراضي صدد، قد غاب عنها خير السماء منذ نصف قرن ويزيد، لكنها مخضوضرة في القلب مذ كنّا صغاراً نصابحها أو نماسيها، ونحن في طريقنا إلى الحصاد أو كروم العنب والتين، قبل أن تصير أثراً بعد عين. وما إن نتجاوزها حتى تطلّ واحة القناة بنضارتها وعبق ثمارها، وقد رضعت ماءها السلسبيل، قبل أن نسمع فيروز تشدو: كحلون ضيعة سِتّي."
هذا النص ترك أثراً عميقاً في الكاتبة المصرية "شروق لطيف"، التي تقول عنه:
"كحلون ليست في عين الكاتب مجرد هضبة جرداء، بل هي جنة مطمورة في أعماق القلب، وواحة خضراء في مروج الذاكرة. فهي الطلّة التي كانت تصافحهم صغاراً في طريقهم إلى الحصاد، وهي العناقيد النضرة التي كان يقطفها خيالهم قبل أن تمتدّ إليها الأيدي، وما زادها بهاءً أغنية فيروز عن كحلون."
وتضيف لطيف:
"اعتمد الكاتب بركات في نصّه عن كحلون أسلوباً وجدانياً حالماً، يمزج بين الحنين والذاكرة من جهة، وبين تصوير المكان بلغة شعرية من جهة أخرى. لم يتعامل مع كحلون كهضبة جغرافية فحسب، بل رفعها إلى مرتبة الرمز: رمز الطفولة والبراءة، والانتماء إلى الأرض التي وإن قحطت في الواقع، بقيت في القلب نضرة لا يذبل خضارها.
وتتابع حديثها: يتّسم أسلوبه بالتكرار الإيقاعي لاسم كحلون، وهو تكرار مقصود يضفي على النص نغمة موسيقية جذّابة. كما نلحظ اعتماده على الصور البلاغية التي تحوّل المكان إلى كائن حيّ، ومزاوجته بين الماضي والحاضر، حين يستحضر أيام الطفولة والمشي في الطرقات الوعرة، ثم ينتقل إلى صوت فيروز الذي يخلّد المكان في الذاكرة الجمعية، وأخيراً يشير إلى مبادرات الشباب المعاصرة التي تعيد إحياء الاسم."
لغة صافية صادقة
من جانبه، كتب الأديب المصري ناصر عبد الحميد عن تجربة بركات قائلاً:
"لم يكن الإعلامي والكاتب سعد الله بركات مجرد اسم يمرّ في عناوين المقالات أو على صفحات المجلات، بل كان صوتاً صادقاً في المشهد الثقافي العربي، يتتبع خطوات الكلمة الحرة، ويحتفي بأهلها بوفاءٍ نادر وموضوعية لا تشوبها مجاملة، عُرف بركات بحواراته العميقة التي أجراها مع أصوات شعرية عديدة، حيث لم تكن حواراته مجرد أسئلة وأجوبة، بل لقاءات فكرية تنبض بالحياة وتتجاوز السطح إلى جوهر الإبداع."
أما الدكتور جورج جبور فيقول لمدونة وطن عن معرفته به:
"تعود معرفتي بسعد الله بركات إلى مطالع تسعينات القرن الماضي، حيث عرفته على مدى سنوات صحفياً لامعاً، وقد لفتني اهتمامه بتزويد القرّاء بلمحات وافية عمّا يقرأ من كتب فكر وأدب. وعندما هاتفني مرة متمنياً عليّ أن أقدّم لـ(أوراق وجعه)، فاجأني العنوان، قبل أن تفاجئني استمرارية نتاجه بعد تقاعده واغترابه.
وأضاف.. عند قراءتي (الأوراق) وجدتها تنبض بنفحات وجدانية تقارب الحسّ الشعري، وقد عبّر عنها بلغة صافية صادقة،فمنذ الصفحات الأولى بدا غارقاً في وجع غربة اختارته ويبدو أن غربة سعد الله كانت مركّبة: غربة عن بلدته التي غادرها فتىً للعلم ثمّ للعمل، وما إن أنهى مسيرته بالتقاعد والعودة إلى الربوع، حتى بدأ اغترابه بعيداً عن الوطن، ولمّا يرتوِ بعد."
ويتابع جبور حديثه :
"وإذ يبرز حنينه إلى بلدته (صدد)، فلأنها الرمز والمرتكز، وهي رمز الحنين الذي يختزل ألمه من وجعين: نزيف الوطن، وغصّة الغربة. وهذا ما نلمسه في العديد من أوراقه، كما في (حكاية صدد)، حين يقرئها والوطن معاً السلام وطيب الكلام:
سلام عليك يا صدد.. ويا شام شامة الدنيا، التي استهلّ أوراقه بالحنين إليهما، رابطاً بين العام والخاص، بين الجزء والكل، بقوله:
(كعصفورٍ يرنو إلى عشه، ومثل زنبقة عطشى، مثل قطرة ماءٍ تتعشق ذرات الثرى، يشدّني الحنين عاجلاً إليكِ يا شام.)