من زواريب الضيعة خلال فصل الشتاء، ووحول وطمي السواقي التي كانت تجري في كروم قريته بمنطقة مصياف؛ شكّلت تلك المواد النبيلة أولى تحسس أصابع محمود شاهين لأن يخوّض في الوحل والطين، ويكوّن مُجسمات ستبقى تُشكل أهم شواغل هذا الفنان لأكثر من نصف قرن.
يوزع شاهين مشاغله الإبداعية وشغفه باتجاهاتٍ رئيسية ثلاثة
الدكتور محمود شاهين (1948)؛ يوزّع مشاغله الإبداعية باتجاهاتٍ رئيسية ثلاثة، يتفرع عنها الكثير من الشواغل الأخرى منها: النقد وله في هذا المجال – إضافةً لما ينشره في الصحافة – عشرات الكتب في النقد التشكيلي، ثم التدريس: فهو من الأساتذة المخضرمين في كلية الفنون الجميلة - قسم النحت، وكان قد تبوأ مركز عميد كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق مرتين، كما شغل رئيس تحرير مجلة الحياة التشكيليّة الفصليّة، التي تصدر، منذ عام 1980 ولفترة طويلة.
وأخيراً النحت حيث توزعت تماثيله النصبية في غير ساحة وفي أكثر من مدينة سورية، كما أقام عشرات المعارض لمنحوتاته الصغيرة، أحدثها كان معرضه في الأرت هاوس بدمشق.
كان النحت شغفه للتعبير عما يجول ذاكرته البصرية
توقه للنحت الذي شغف به كان لسببين كما يقول شاهين لمدونة وطن؛ للتعبير الذي ترّسخ في ذاكرته البصرية منذ بواكير الطفولة في الضيعة، عندما أغواه الطمي المُتجمع على ضفاف سواقي الكروم، حيث كان يستنهض تكوينات فراغية بعد تسليحها بأغصان وقرون الدفلى، وأمّا الباعث الثاني؛ فكان بسبب نحات مصري تعرّف عليه خلال دراسته في قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بدمشق، وهو أحمد أمين عاصم الذي دفعه بهذا الاتجاه وحببه به وذلك بين عامي (1968و1972) والذي زوّده بالمعارف والتقانات والروائز والقيم النحتية السائدة في أكاديميات الفنون الجميلة العالميّة.
وأمّا عن لغز انجذابه لتشخيص الجسد النسوي وليكون هذا التشخيص الحامل لغاياته الجمالية والفكرية؛ فيذكر شاهين أنّ ذلك بدأ باكراً، وقبل الدراسة الجامعية – حصل على الشهادة الثانوية سنة 1968- حيث كان يُشكل تكوينات أنثوية من طمي السواقي مُتأثراً بتلك الأشعار والقصص التي كان ينشرها في الصحف، ثم كان مشروع تخرجه من الجامعة سنة 1972 بعنوان "النشوة" وخلاله ألف مجموعة أعمال مُجسمة ولوحات نحت نافر حاول من خلالها التعبير عن حالات أنثوية حسيّة، مُستخدماً وضعيات وتمظهرات تُرافق هذه الحالة.
يصف شاهين تلك المنحوتات بأنها تندرج تحت أسلوب الواقعي لكنه المُبسط الذي لا يحتمل الكثير من التفاصيل، لأنّ مثل هكذا تفاصيل بتقديره تُعيق انزلاق الضوء فوق السطوح النحتية، ويقول عن هذه الصياغة إنها تتماهى فيها خصائص السطح الزخرفي بالسطح النحتي المُبسط الذي يُذكرنا بالنحت القديم في سوريّا العتيقة، وفي غيرها من الحضارات القديمة كالفرعونية والآشورية والتي –على ما يبدو – أنها شكلت أولى مرجعياته الفنية في مجال النحت ..
هذا التأثر الذي وجده لدى فنان بريطاني معروف، وهو "هنري مور" هذه الصياغة النحتيّة المترابطة السطوح والمختزلة، وبرأيه فإنّ هذه الخصائص والمقومات مجتمعةً؛ تُشكّل خلاصة قيم النحت العالمي قديمه وحديثه.
بقي شاهين وفياً لنهجه في الاقتصاد الفني لصالح الفكرة
ومن يتأمل منحوتات الفنان شاهين؛ سيجد إنّ هذا الفنان بقي وفياً لنهجه في هذا الاقتصاد الفني لصالح الفكرة، أو قام بالموازنة بحيث لا تطغى الفكرة على الشكل، أو أن يذهب العمل النحتي في الحالة الفنية الصرفة
من هنا نلاحظ إنّ أعمال محمود شاهين؛ سواء النصبية أو المنحوتات الصغيرة؛ يكون تركيزها على الحالة التعبيرية التي هي غاية العمل التشكيلي، أو مقولته، لذلك نجده يبتعد عن حالات طالما انتقدها في شغله النقدي، وهي الحالة الهندسية التي وقعت فيها الكثير من الأعمال النحتية، ولا سيما في الملتقيات، أو المبالغة في التفاصيل والحالة الشكلية، كما أنّ أعماله لا تذهب باتجاه التجريد الخالص، فقد استطاع أن يمزج بين الاتجاهين للوصول إلى تعبيرية خاصة بالقليل من الرموز.
النحات الجيد لابد أن يكون رساماً جيداً أيضاً
ربما يعود ذلك لأمرين؛ الكتابة النقدية والرسم؛ فهو – على ما يروي – إنّ النحات الجيد لا بد أن يكون رساماً جيداً أيضاً، والرسم بتقديره؛ هو مدخل لغالبية الفنون البصرية، ثم تلك الميزة التي وجدها في مسألة الفنان – الناقد، حيث وجد في مهمة النقد للفنان؛ تكمن في التحريض لمتابعة نتاجات الفنانين الآخرين، ودراستها وتحليلها ومن ثمّ الكتابة عنها، إضافةً لمتابعة كلّ ما يصدر من دراسات وكتب فنية، وكلُّ هذا يُشكل روافد تُغذي ثقافته النظرية والبصرية بشكلٍ دائم، وتجعله على تماسٍ مباشر مع حركة الحياة التي يجب على الفن أن يبقى لصيقاً بها ودائم الوجود في محرقها، لأنه بغير ذلك -يُضيف- يتحوّل إلى حرفي محكوم بالتكرار. غير إنّ الإشكالية التي يُمكن أن تُجابه الفنان الناقد: كيف يُمكن أن يُطبق الروائز التي قاس بها أعمال الآخرين على أعماله بالموضوعية والتجرد نفسهما؟! يُجيب شاهين: شخصياً أقوم بتغييب شخصية الناقد فيّ أثناء قيامي بإنجاز العمل الفني، واستحضرها بعد انتهائي منه؛ لتُمارس دورها في تقييم الشخصية الأخرى التي عليها أن تُماهي بين الموهبة والخبرة والعفوية؛ لأن العمل الفني بدون العفوية والإحساس والخيال يتحوّل إلى مُعادلة رياضية باردة.. وشاهين كما يقول عنه الفنان إلياس الزيّات: "واحدٌ من المهتمين بالموضوع: فكراً وقلماً ونحتاً.. إنه نحات شكلٍ مرئي، يحب النحت لأنه عملية ابتكار وتأمل."
أما عن تمايز شغله في الأعمال الصالونية صغيرة الحجم، والنصبية التي في الساحات والشوارع؛ فيذكر الزيات : إنّ الأعمال الحجرية الصغيرة بدأ الشغل عليها منذ سبعينيات القرن الماضي؛ تختلف في تحولاتها وتقاناتها عن الأعمال النصبية كبيرة الحجم التي اشتغلها بين عامي 1984 و2005، فقد كانت المواد الخام للأعمال الصغيرة من الرخام والحجر والأسمنت والبرونز والجبس والبوليستر، كما نوّع في صياغاتها وأساليبها وأخضعها لعملية بحث وتجريب مفتوحة، فيما فرضت الأعمال النصبية معالجات وتقانات ومواد خاصة تتطلبها جملة من الشروط والمقومات الموضوعية كالمكان والمناخ والوظيفة المُنوطة بهذه الأعمال.
فنان يلامس الحقائق المفتوحة على ألوان الحياة وحركتها
وفي قراءة التجرية يقول الناقد والفنان التشكيلي أديب مخزوم: من يعرف جوانب ومسارات وهواجس وتطلعات الفنان والباحث والناقد التشكيلي شاهين؛ يشعر كما لو أنه يلامس الحقائق المفتوحة على ألوان الحياة وحركتها، فلغته التشكيليّة النحتية آتية من ثمرة وخلاصة الصراع الثقافي، بين المنحوتة التقليدية والمنحوتة الحديثة، ولهذا كانت تجاربه في تنوعاتها وتحولاتها وانعطافاتها التشكيليّة والتقنية، قادرة على إعطاء الحياة الفنيّة والثقافيّة شيئاً من جماليات ثقافة فنون العصر، في تشعباتها وتداخلاتها وتفرعاتها، وهي في معظمها منحوتات متفاعلة مع الإيقاع التعبيري المنساب في حركة جسد المرأة، والمُجسّد كحالاتٍ إيمائيّة اختزاليّة مُشبعة بعنف التوتر الدرامي، المتعاقب في عمق حياتنا اليومية كحدث صدامي أو كحركة دراميّة مُعبرة عن مشاعر القلق والتوتر والاختناق، الأتي من معايشة حدة فصول الأحداث الدرامية المتعاقبة دون توقف أو نهاية.