من وجهة نظر شخصية؛ لا أجد ما يُماثل الهايكو الياباني "عتابا يابانية" في العالم العربي، وفي بلاد الشام على وجه الخصوص، أو أكثر ما يُقاربه من الموّال، فالشكلان تحكمهما صرامة في الكثير من الشروط الشكلية والمحتوى ضمن حيّزٍ ضيقٍ جداً من التكثيف الشديد غير أن أهمية الموّال؛ أنه وفي هذا التكثيف الشديد، هو شكلٌ إبداعي يتشابك مع الكثير من الإبداعات الأخرى المُعاصرة اليوم، وسيختلف عنها أنه مكتوب ليُغنى وباللهجة المحكية، وإن كان يُمكن "تفصيحه" في الكثير من الأحيان.

وعلى ما يروي السيوطي في كتابه "شرح الموشح"؛ فإنّ الموال يعود إلى عصر هارون الرشيد، حينما أصرَّ على جواريه أن يرثين وزيره جعفر البرمكي بعد أن بطش به، فرثته جارية تدعى "الموليا"، وكان الموال بعدها والميجنا بمنزلة اختبار أولي لمقدرة المطرب على الغناء.

يحتاج موال العتابا لصوت قوي وغنى الطبقات والتلوين

الراحل وديع الصافي والياس كرم أشهر من غنى الموال

الموسيقي مروان دريباتي تحدث عن الموال قائلاً: التحدّي في الموّال لا يكمن في كتابته، أو في تلحينه وحسب، بل هو اختبار حقيقي للصوت، حيث يحتاج موال العتابا لصوت غاية في القوة وغاية في غنى الطبقات والتلوين بين قرارٍ وجواب، ومن هنا تفسير هروب الكثير من المغنين من أداء هذا التحدّي- الموّال، وهناك من أكد أن من لم يُغن الموّال فليس مطرباً؛ بل هو ربما يكون مُغنياً وحسب، ولا سيما إن كان ينتمي لبلاد الشام، فإن تكون مطرباً، وتكون من سوريّا، لا بد من "شهادة" غناء الموّال.

"على الله تعود بهجتنا والفراح

المطربين فؤاد غازي وعادل خضور تميزا بغناء الموال

وتغمر دارنا البسمة والفراح

قضينا العمر ولف طل وولف راح

المطرب أبو عرب والموسيقي مروان دريباتي

وضاع العمر هجران وغياب"

وأضاف: هذا الموّال من العتابا، الذي يكتنز على رواية طويلة من قصص الفقد والهجر والغربة؛ كان أوّل من غناه الراحل وديع الصافي، من كلمات ميشال طعمه، وألحان فريد الأطرش، لا يزال هذا الموّال يُطرب به السوريون على مدى الديار الشامية كلها، وليس في سوريا وحسب، وربما في الكثير من الديار العربية الأخرى. كما لا يزال يُردده عشرات المُطربين ليصير مبتدأً لعشرات الأغاني ومطلعاً لها، وهو الذي كان مكتوباً لأغنية من مقام راست تتحدث هي أيضاً عن الوحدة والضياع، أمست اليوم من كلاسيكيات الطرب العربي، يقول مطلعها:

"على الله تعود على الله

يا ضايع في ديار الله

من بعدك أنت يا غالي

ما لي أحباب غير الله"

ذلك الموّال الذي بدأنا به هذه المقالة، ثمة فريق شامي من أكثر من بلد في بلاد الشام – من لبنان وسوريا – كان قد أنجزه منذ سنوات طويلة، وهنا أذكر بلاد الشام؛ لأن موّال العتابا الذي هو أحد أنواع الزجل المعروفة ب"ستة عشر" نوعاً، أكثر ما عُرف في بلاد الشام، ولا سيما في سواحلها وجبالها من شمال لواء إسكندرون وحتى جنوب فلسطين، ومن هنا غالباً ما أطلق عليه "الموّال الجبلي" وهي تسمية متأخرة نسبيّاً.

وفي كتابه – الأعمال الكاملة – للناقد المعروف، مارون عبّود؛ يؤكد أن العتابا من أشهر أنواع الغناء الشعبي الشامي انتشر في عموم المنطقة الغربية للعراق. ويردده العامة في كلِّ مناسبة، مثل الفرح والسمر والأنس. وعادة ما تكون مصاحبة لل (الميجانا). ولفظة "العتابا" يُجمع معظم الدارسين على أنها تعني "العتب والعتاب". ربما يعود ذلك لأنها اشتهرت أكثر خلال مباريات الزجل –المنادمات الزجلية– التي كثيراً ما انتشرت في الأرياف الشامية. وكان لها طقوسها وشجاراتها.

وبالعودة لكتاب مارون عبود، فإنّ موّال العتابا يتركب من بيتين ولكل بيت شطران، وتكون الأشطر الثلاثة الأولى على قافية مُجنسة أي تتفق في اللفظ وتختلف في المعنى، وينتهي الشطر الرابع بالباء الساكنة المسبوقة بالألف أو بالفتحة، وقد ينتهي بإضافة نون ألف، وهنا يصير ميجنا، ومن ثم على الكورس أن يردد القفلة أكثر من مرة:‏

"جبلنا بدمنا ترابو جبلنا

ومهما الدهر غضباتو جاب النا

منبقى هون ما منترك جبلنا

ترابك سوريّا أغلى من الدهب."

مئات المُطربين أبدعوا في غناء الموّال من سوريا ولبنان وفلسطين

وإذا كُنا في هذا المقال نستشهد بمواويل عتابا للراحل وديع الصافي، فذلك يعود للإرث الضخم الذي تركه هذا المطرب من جميع أنواع الغناء الشعبي الذي ينتمي للغناء في الأرياف الشامية، وللصوت القوي والعذب الذي صدح بمئات المواويل لمدى عشرات السنين، غير أن ثمة المئات من المُطربين الآخرين الذين أبدعوا في غناء الموّال غير الصافي، ولا سيما من سوريا ولبنان وفلسطين نذكر منهم: طوني حنا، مُعين شريف، ملحم زين، عاصي الحلاني، فؤاد غازي، إبراهيم صقر، عادل خضور، علي الديك، وغيرهم الكثير، وهنا نُذكّر أيضاً بالمطرب الفلسطيني الذي عُرف لسنوات طويلة ب"أبو عرب".

تكثر شواغل وأغراض "بيت العتابا"، وهنا نلاحظ هذه الصفة للموال، حيث يُطلق على أشطره الأربعة ب"البيت" وما يوحي هذا اللفظ من الاكتمال والحميمية في ذهنية السوري، ربما من هنا شمولية تذوقه لاكتنازه كل هذه الشواغل من الغزل الرفيع وقصص الحب والفراق، وحتى المراثي الحزينة، والهجاء وغيرها من أغراض وشواغل الشعر، وقد عُرفت بلاد الشام الكثير من شعراء العتابا، وصل بعضهم حد الإعجاز في قوله، ولاسيما الشعراء الأميين، ك(أسد فقرو) جد المطرب فؤاد غازي، و(حمد الجوبة) من قرى الساحل السوري الذي كان يرتجل الموّال ببداهة مُذهلة. ونذكر من أهم كُتابه أيضاً: يوسف علي حسّونة من فلسطين الذي اشتهر ب"أبو العلاء". عاش في لبنان وسوريا، وأسَّــس العديد من جوقات العتاب، ونذكر أيضاً بالشاعر الزجلي أسعد الخوري الفغالي، المعروف بـ"شحرور الوادي"، وأحمد التلاوي وإبراهيم صقر من سوريا.

عن هذه الحميمية للموّال بين السوريين على مدى الديار الشامية؛ أوضح الموسيقي دريباتي قائلاً: غالباً ما ارتبط الموّال بالابتداء بالغناء، وهذا الابتداء مرتبط بالرجولة، والموال كان ارتجالاً يعكس الحالة التي يكون فيها المغني -فرح، موت، وطن، مديح، قدح وذم..- ويُضيف: ولاعتزاز السوري بالرجولة؛ كان دائما يتحمس للموّال وبه، ويتفاءل أيضاً. هذا من حيث الطقس النفسي، أما غنائياً، فالموال يبرز مهارات المغني وجماليات الصوت الانفرادي، والعتابا كانت بمنزلة مبارزة غنائية بين أكثر من شاعر غنائي، ومن هنا نتفهّم تصريح المطرب السوري إلياس كرم حينما قال: من لم يُغنِ الموّال ليس مُطرباً.

وأخيراً نروي هذه الحكاية عن مطرب شعبي من ريف صافيتا الذي اشتهر بلقب "أبو مشهور" المُغرم بالعتابا، كان لدى هذا المطرب عقدة عند الشطر الأخير الذي ينتهي بالألف الممدودة والباء الساكنة، فما كان منه إلا أنهى مختلف مواويله بقفلة واحدة أصبحت لازمة لكل أبيات مواويله، وهي "وانتهينا بلا سؤال ولا جواب"..