بين سنة (1948)، وليلة الأمس من (2025)؛ حيث نعته نقابة الفنانين في سوريا، ذلك ما سيكون الفسحة العمرية للفنان أديب قدورة ليسبر من خلالها حياةً ذهبت في معظمها صوب المنحى الجمالي في الدراما السورية مسرحاً وتلفزيوناً، وأهمها كان في ثالثتها (السينما) واضعاً بصمة فنية خاصة به في عمارة الفن السوري، وليُمسي أيضاً علامة فارقة في كلاسيكيات السينما السورية.

وكان رصيده السينمائي قد وضعه "بنك" الدراما السورية من خلال فيلم (الفهد ) إخراج الفنان نبيل المالح عن رائعة الأديب حيدر حيدر، والتي جسّد من خلالها حكاية الثائر السوري الشعبي (أبو علي شاهين) من قرية (سيغاتا) في ريف محافظة حماة.. في هذا الفيلم حيث سيُلفت الانتباه لأكثر من سبب سواء في التماهي مع تلك الشخصية الشعبية التي قادت فعلاً بطولياً عفوياً فردياً ضد الظلم، والتي انتهت بخاتمة تراجيدية كما معظم "الأبطال" التراجيديين في معظم المرويات الشعبية، أو من خلال الجرأة العالية في مشاهد الفيلم، والتي أحدث حينها صدمة في ذهنية اعتادت مشاهد مُتعارف عليها في السرديّات البصرية السينمائية، وقد جسدّت دور الزوجة في هذا الفيلم الفنانة السورية (إغراء)

في حديثٍ سابق

وفي حديثٍ سابق مع الفنان الراحل أديب قدورة يقول عن فيلم (الفهد): "قضية الفيلم بدأت مع المخرج نبيل المالح في إحدى الجلسات عندما رشحني لبطولة هذا الفيلم السينمائي، ولقد فوجئت بذلك وغمرتني سعادة لا توصف حينها، حينما طلب مني الوجود في مؤسسة السينما من أجل ذلك، وفي سياق الحديث ومن باب المداعبة ساومت المالح على الأجر، وكنتُ أنذاك اتقاضى أجراً من التدريس لا يتجاوز ال(240) ليرة سورية، فكان جوابه بأنه سيعطيني مئة ليرة في اليوم الواحد، وعلى مدى ثلاثة أشهر، فلم أصدق الأمر، ولم أصدّق هذا العرض حينها.. بعد ذلك عرفني على طاقم العمل كله مع مدير الإنتاج، وكذلك تعرفت على الأديب حيدر حيدر.."، ويُضيف: أذكر وقتها حين قال لي المخرج بأنني سأكون مُدللاً في هذا الفيلم أكثر منه.. من هنا اعتبر دوري في فيلم الفهد من أحب الأدوار إظلى قلبي.. رغم كل ما حدث للفيلم لاسيما بعد أن أوقف التصوير لسنوات منذ عام (1968)، ليُعاد النظر بعد ذلك بعد سلسلة من التحولات الفكرية في تلك المناخات عن أهمية دور الفن ودور السينما، ليبدأ تنفيذه في سنة/1971/.

مشهد من فيلم الفهد

وعن سر نجاح فيلم (الفهد)، يذكر الفنان أديب قدورة؛ أنّ السر بسيط جداً، حيث وجده أولاً أنه يكمن في القصة التي كتبها الروائي حيدر حيدر، فهي كانت من صميم الواقع، وقد جسدّت النموذج للبطل الشعبي المطعون في الظهر، وهذا النموذج موجود في العالم منذ القديم إلى زمننا هذا.. حيث استطاع المخرج نبيل المالح تحقيق المعادلة الصعبة في توزيع الأدوار واختيار أماكن التصوير في الشمال السوري التي حاكت قصة شخصية كانت حينها لا تزال فاعلة في الذاكرة السورية.. وهنا نُشير إلى أن شخصية (أبو علي شاهين)، التي شغلت في تفاصيلها المخيال السوري في النصف الأول من القرن العشرين؛ كانت قد دخلت مختلف المرويات الإبداعية من رواية، وشعر، وقصة قصيرة، وحتى مسرح ودراما إذاعية.. كما دخلت في كلمات الكثير من المواويل والأغاني الشعبية، وسردت الحكاية غناءً في الكثير من المناسبات الشعبية والاجتماعية.

فهد السينما

وفي حديثنا الطويل (بيني وبين الفنان الراحل) في ذلك الحين، لم ينكر أديب قدورة مشاركته في الكثير من الأعمال السينمائية التي كان سائداً تصنيفها في ذلك الزمان على أنها أفلام "تجارية"، وفي تبريره عن ذلك؛ يقول إنه كان بدافع الحاجة، ولا سيما كان ثمة أقنعه حينها بترك الوظيفة بعد نجاح دوره في فيلم الفهد، وأقام في فندقٍ بدمشق، وكان قد وعد بدور هام جداً في فيلم (الحدود الخفية) الذي كان سيخرجه المخرج محمد شاهين، لكنه يتفاجأ بعد وقت قصير بفسخ العقد الذي جاء نتيجة غيرة من الكثير من الممثلين الذي احتجوا على تجسيده دور البطولة في فيلم آخر يتلو فيلم (الفهد) مباشرة، وهو ما اعتبره طعنة في الظهر، أوقعته في مأزق كبير من الديون التي تراكمت عليه لدرجة عجز خلالها عن تسديد ثمن إقامته في الفندق، وهو الأمر الذي اضطره للعمل في الأفلام التجارية لبعض الوقت، أو أفلام (المقاولات) كما كانت تطلق عليها الصحافة الفنية في مصر،

المخرج المهند كلثوم

غير أنّ فيلم (الفهد)، لم يكن رائعته الوحيدة في السينما السورية، وإن كان يُشكّل في مجموعة أعماله واسطة العقد، فقد اشترك قدورة في الكثير من الأعمال المهمة، والتي كانت بدورها مأخوذة من رويات لروائيين معروفين كما في فيلم (بقايا صور) للأديب حنا مينة، وفي أرشيفه السينمائي، نتذكر اليوم أفلاماً مثل: مطلوب رجل واحد ، نار ودخان، حكاية أم، ضياع في عيون خائبة، رحلة عذاب، وجه آخر للحب، بنات للحب، العندليب، العالم سنة /2000/ ، ليل الرجال، عشاق على الطريق، غوار جيمس بوند، الحسناء وقاهر الفضاء، عرس الأرض، الطريق إلى دمشق، العار، وغيرها

كما لم يقتصر شغله الإبداعي أو يحصره في السينما، وإن كان في (الفن السابع) أكثر ما أظهر تميزه الفني والإبداعي، فقد حجز جزء من تجربته الفنية مساحةَ لا بأس فيها في الدراما التلفزيونية، وقد عرفه الجمهور في أكثر من مسلسل تلفزيوني، نذكر منها: "شجرة الدر، الدخيل، الثعبان، تل الرماد، حي المزار، الحب والشتاء، جواد الليل، سحر الشرق، حد الهاوية، حصاد السنين، امرأة لا تعرف اليأس، كنا أصدقاء، أعيدوا صباحي، سفر، عمر الخيام.. وغيرها.. كما كانت له مساهماته في أبي الفنون، ولا سيما في بداياته التي بدأت من خلال الخشبة المسرحية، حيث جسّد بعض الأدوار المسرحية من خلال مسرحيات: "هبط الملاك في بابل، مأساة جيفارا، السيد بوتيلا وتابعه ماتي، سمك عسير الهضم، الأيام التي ننساها، وثلاثية تشيخوف.

من تكريم الراحل قدورة

قادم من الجنوب

أديب قدورة الذي يستذكره اليوم المخرج المهند كلثوم بالقول: " الفهد أديب قدورة؛ هو الحب، هو الشغف في الذاكرة الوطنية السورية.. هذا الرجل ذو القامة السينمائية المديدة..الرجل الذي يحمل في أرشيفه الشخصي (38) فيلماً كبطولة مطللقة، وبطل فيلمنا (توتر عالي)، وهو بحق ذاكرة الزمن الجميل"

أديب قدورة القادم إلى الدرما السورية من مناخات الديكور والفن التشكيلي، وتدريس مادة الرسم في مدارس حلب؛ ربما يظن الكثيرون أنه فنان سوري حلبي، غير أنّ قدورة وإن كان من منبت سوريا الكبرى، أو سوريا الطبيعية كما توصف في بعض المصطلحات السياسية، هو من فلسطين، من مواليد (الأول من تموز 1948)، في (ترشيحا – فلسطين)، ومن ثمّ فهو ينتمي إلى قائمة كبيرة من الفنانين الفلسطينيين – السوريين، الذين جمعوا الهوية السورية من جنوبها إلى شمالها.