ذات حين؛ كان ثمة مساحة من الأرض؛ تأخذ مكانها على أحد كتفي الضيعة، غربها أو شرقها، أو على أكثر من كتفٍ للقرية، وتكون ماثلةً لمرأى كلّ الأهالي.
على تلك المساحة من الجغرافيا؛ كان يُطلق اسم "البيدر".. وكان يُشكّلُّ حراكاً إنسانياً يعطي الكثير من الإشارات على مدى نشاط الضيعة أو خمولها، فالبيادر تمثل ساحات لاقتصاد القرية السورية، وحوادثها وفنونها وسباقاتها الرياضية، باختصار كان البيدر المنبر الفسيح لحالاتٍ ثقافية واقتصادية واجتماعية ريفية في المجتمع السوري.
البيدر أحد معالم الضيعة السورية المدثرة
لكن مع تطور المجتمعات وتمدين القرى؛ كان أن حدث أوّل تآكل لبيدر الضيعة الذي كانت لا تخلو من وجوده قرية في الساحل السوري، وربما كان متوافراً في معظم الأرياف السورية..
حدث تآكل البيادر حين أقيمت عيها مبان لدوائر رسمية وحكومية باعتباره "أملاك دولة" مثل مباني الهاتف، والبريد، والمدارس، والمبرات، والمحاكم والمستوصفات وغير ذلك، وفي حالات قليلة تحويلها من قبل بعض القرويين لأراضٍ زراعية..
وبيادر القرية، ليست هي الضحية الوحيدة، ولكن ذكرناها كمثال حزين لمساحات الجمال التي اجتاحها الإسمنت واليباس، وهو مثال موجع ينسحبُ على مختلف بيادر القرى السورية.. تلك المساحات التي كانت الضحية الأولى للمخططات التنظيمية مع إنشاء نظام البلديات، البلديات التي أسهمت هي نفسها في قتل تلك الحالة الاجتماعية والثقافية للقرى السورية.
البيدر، أو البيادر؛ الاسم ذو الحميمية الدافئة؛ الذي طالما أطلق على صحف ومجلات، ومطاعم ومحلات تجارية، وحتى على مواقع إلكترونية ومجموعات شعرية، ودواوين وكتب، وبنوك وغيرها كإشارة للمواسم والوفرة؛ هو في الحقيقة كان المكان الأول لمواسم وحصاد القرويين، وحتى مكاناً لبقية عمليات الجني والحصاد من درس الزرع وتخمير وعصر العنب وتقطيره، وصولاً لعقد الدبكات وسباق الخيل على ما يذكر أحمد الأحمد الذي كان له مع البيدر أكثر من حكاية مواسم..
وفي بعض تعريفاته: البيدر (في الشام)؛ مكان في الهواء الطلق، تُجمع فيه أكوام الحبوب أيام الحصاد تمهيداً لدرسها (فصل الحبوب فيها عن القش). ولا يبتعد كثيراً عن معنى "البدر" سواء في مكان إقامته كمكان يراه مختلف أبناء القرية، أو حتى في شكله القريب من المستدير لوجه القمر. أو كبادرة طلوع في أول القرية أو على أحد كتفيها باعتبار مُعظم القرى تُقام على السفوح.
وحسب المعاجم التي تُسهب في تفتيت الكلمة وتذريتها، فتقول: بيدر في قاموس المعجم الوسيط: المكان المُعد لوضع المحصول بعد حصاده من أجل درسه وتذريته. وبَيْدَرَ بَيْدَرَ الحنطةَ ونحوها: كوَّمَها في البيدر. وبَيْدَرٌ جمع: بَيادِرُ. وتَنْتَشِرُ البَيَادِرُ فِي السُّهُولِ أثْنَاءَ مَوْسِمِ الحَصَادِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُجْمَعُ فِيهِ السَّنَابِلُ وَنَحْوُهَا لِدَوْسِهَا ودرسها.
يُشكّل البيدر حالةً اجتماعية تُنتجها الحالة الاقتصادية
ربما ما قامت به المعاجم من تعريفات للبيادر، والذي يبدو أنه أخذ من الغاية التي أقيمت من أجله وهي جمع سنابل القمح ودوسها وفصل الحب عن القش، غير أن بيدر الضيعة؛ كان لغايات أوسع من ذلك بكثير رغم جلال المهمة القمحية، وعلى ما يذكر المهندس الزراعي إبراهيم البشير: فقد كان البيدر أحد معالم الضيعة السورية، يُقارب بالأهمية المعالم الأخرى من معبد ومدرسة، ومن ثم مستوصف أو غيره من المعالم الحديثة والمُعاصرة. ورغم جمال حالة المواسم للبيادر، والتي لا تقتصر على حصاد القمح فقط، بل هو مكان تجميع لمختلف الغلال والمواسم قبل تخزينها أو بيعها؛ كان كذلك يُشكّل حالةً اجتماعية تُنتجها الحالة الاقتصادية السابقة من تعاون في استكمال جني المواسم وترتيبها وتصنيع منتجاتها من بيع وشراء وغير ذلك؛ ويُضيف البشير: كان البيدر أيضاً المكان الأكثر انشراحاً للمصالحات وحل المُنازعات وعقود الصلح بين الأطراف المختلفة أو المتنازعة، وعلى البيدر الذي غالباً ما يُجاور جبانة القرية، كثراُ ما كانت تُقام سرادق العزاء والتشييع، وعلى البيدر أيضاً كانت تُقام حفلات الأعراس وسباقات الخيل ومصارعة الثيران والديكة، ومختلف المناسبات الاجتماعية والرياضية، وقد شكلت إلى زمنٍ قريب جداً ملاعب لكرة القدم والطائرة وغيرها في مباريات، كانت تخوضها الكثير من القرى التي كانت تتمتع بنعمة البيادر.
وهنا بمقدورنا أن نُعدد عشرات الألعاب التراثية التي كانت ساحاتها بيادر الضيعة من يُعدد الأحمد منها: رمي "قواميع" الحجر والتكروعة والسمركة والمستخباية وغيرها الكثير من الألعاب الأقرب إلى الألعاب الرياضية والتي انتهت مع اندثار جغرافيا البيادر.
وختاماً فإن بيدر الضيعة؛ ربما هو المعلم والملمح الريفي الأكبر من حيث الجغرافيا الذي خسرته الضيعة السورية، يضاف إلى عين ماء الضيعة، وحرش السنديان، والطواحين التي كانت منتشرة على ضفة النهر كتراث ثقافي واقتصادي واجتماعي.