في سنة (2015) زرعت "عشبةً للأزرق": مجموعتها الشعرية الأولى، التي أصدرتها عن دار أرواد بطرطوس. وفي سنة (2018)، دخلت سوسن الحجة في "هذيان الفضة" المجموعة الشعرية الثانية التي صدرت عن دار كنعان في اللاذقية، وفي ثالتها الشعرية كانت "امرأة تسرق الآلهة" سنة (2023) التي صدرت عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وهي في كلّ انشغالها الشعري التصاعدي، تعكسُ تطور تجربتها الإبداعية وعمقها الفني، من خلال النصوص التي تتضمن شعراً تأملياً عميقاً يجمع بين الوجدان والروحانية
"العشبة
الساكنة على طرف الطريق؛
تفرح بتربتها،
تكتمل بذاتها،
لا تنافس أحداً؛
هي أنا"
وهكذا بعد ثلاث مجموعاتٍ شعرية، نشرتها تباعاً؛ كان الظنُّ أنّ سوسن الحجة، تلمست خطى القصيدة، واكتفت بطريق الشعرِ مساراً إبداعيّاً وحيداً للمهندسة الزراعية التي تتعامل مع القصيدة، كما يتعامل فلاحٌ فينيقي عتيق مع النبات والزرع والأشجار، وقد خبر المواسم.
غير أنّ الحجة وبعد تكريسها لتجربة شعرية بدأت تأخذ حيزها الجمالي في ديوان الشعر السوري، تقدّم أحدث نتاجاتها الإبداعية (رائحة البئر) الصادرة عن دار دلمون الجديدة بدمشق.. ويأتي الأمر ك"غواية إبداعية" قام بها الكثير من الشعراء والشاعرات، وكان الظن أن مثل هذا التنويع الإبداعي غالباً ما يكون من فعل القاصين والقاصات الذين غالباً ما يتجهون صوب الرواية بعد مجموعة أو مجموعتين قصصيتين
"مطرُ الصّباحِ الشّهيُّ
رسمَ بأصابعِهِ قُزَحَ
شربتُ قهوتي عليهِ
تعشّقتُ بكَ
وسوسن الحجة في نتاجها الشعري؛ تأتي التراكيب الشعرية التي تنسجها، دون افتعال، أو تقصد، وبعيداً عن لي عنق الكلمات وقسرها كما يحدث للكثير من الومضات الشعرية التي ينتجها الكثيرون في الساحة الشعرية.
تقول: أقدّم كل هذا الفيض الشعري الذي ينتمي إلى تيارٍ مزيج من الوجودية والروحانية، بنبرة حزينة، وغالباً يعكس مشاهد الحرب والمعاناة السورية، مع تأمل في حياة المرأة والذات والوجود. وهذا ما يتوفر – على سبيل المثال – بكثرة في مجموعة (هذيان الفضة) حيث تستخدم الحجة رموزاً: كالقمر، والمرآة، والصمت.. لتمثيل هموم الذات وسؤال الهوية، بلغةٍ تغلبُ عليها الصوفية الشاعرية..
"أنا في عزلة عن أناي،
أنا الساكنة..
بينما العالم يجفّف وقته."
ربما من هنا، يُمكن تفسير (المتواليات الشعرية) – كما تفعل في الكثير من نصوصها الشعرية - التي تبدأ فيها مجموعات قصائدها.. متواليات تجمعها تحت عنوان واحد، حيث تُحرّض الومضة لتوالد الومضة التالية، وهي خلال سلسلة هذه المتواليات تقتفي سيرة جدتها شهرزاد في سرد الحكايا القديمة.
"عويلٌ يقضمُ
أجنحةَ المرايا،
سيلٌ من القبّرات
بين الزجاج والفضّة
تسقط في حلكتها
كأصداءٍ موحشة
وفي "عشبة للأزرق" نقرأ قصيدة واحدة مكتوبة بدمٍ واحد، وبلحظات حياتية واحدة.. قصائد مقتضبة ومركزة بشكلٍ منضبط كأنها ملحمة تخييلية ذات حساسيةٍ شعرية عالية، استعملت فيها الشاعرة كل أسلحتها البلاغية وطوّعت أدواتها وكثّفت المعاني والدلالات على أكثر من جبهة؛ لتنتظر بزوغ القصيدة وولادتها كقولها:
"أطلق رصاصتك،
أطلق حبك،
أطلقت ذئابك"
وعلى ما يرى الشاعر والناقد إبراهيم حسو: ففي قصيدتها تقتحم عالماً آخر هو عالم الأنثى في وضعيات مختلفة وسلوكيات جمالية واستيهامية تعرض فيها رغباتها منذ أن تتخلص من ذاتها الواقعية.. وتتفرغ لأناها وترجمتها شعرياً بلغةٍ كتومةٍ في أغلب الأحيان، وهي لغة درجت عليها الشعريات النسوية السورية في التسعينات، بأداء لغوي مشدود، حيث تعود سوسن الحجة إلى لملمة نصوصها المبعثرة في مقاطع طويلة، مبتعدة هذه المرة عن عقدة الـ"هو"، ومهادنته والقفز عليه من خلال التفرغ للعاطفة والمشاغل الخاصة والرسائل الشفهية بين كتابتها وذاكرتها، مستعينةً بلعبة التكثيف والضغط والاقتصاد على المفردة الواحدة والجملة المؤلفة من كلمتين أو أكثر.
"كلُّ شيءٍ يشي بالسحر،
حتى الشمسَ
تقسمها إلى بيتين:
الأوّل للشّعر،
الثاني للعصافيرْ.."
تذكر الشاعرة والناقدة راوية زاهر عن مجموعتها (امرأة تسرق الآلهة): إن جلّها يميل إلى السّرد الطويل، وعنوان فقط يحمل بصمة الوميض وشعر الهايكو. وإذا ما توقفنا عند العنوان "امرأة تسرق الآلهة؛ فهو عنوان غريبٌ، ولافت، يقود مخيلة المتلقي إلى زمن الأساطير العتيقة، فأي امرأة هذه التي تحسب نفسها قادرة على سرقة الآلهة؟! وكأنها رسمت حتفاً مجلجلاً لعظمة "عشتار" إلهة الخصب والجمال، و"أفروديت وعنات" وغيرهن ممن فردّن أجنحتهنّ وهنّ يحكمن بكل ألوهية أزمنة الأساطير. حيث اعتمدت الكاتبة في طيات مؤلّفها على استخدام (الأنا) بطريقة صاخبة، حتى باتت ضمائر المتكلم غازيةً لكلِّ حضورٍ، كما لم تتوقف الشاعرة عن استخدامها للرمز، فكان وسيلة تعبيرية خادمة لاستنساخ الدلالة والولوج في عالمها المنفتح على الطبيعة، فاستخدمت الظلّ بإتقان، وكان لجماليات الظلّ وإحالاته حقلٌ واسعٌ من الدلالة
"أحبك
بعدئذٍ،
ليس لي إلا
أن أقطف الرمان
من الجحيم
وإذا ما تأملنا النص السابق؛ فهو نص شعري مكثف يحملُ في طياته دلالات رمزية شديدة العمق، وبنية لغوية مختزلة تُلمّح أكثر مما تُصرّح..
"طفلتان في عرض الطريق
تبتلعان الحصى
البلاد وأنا".
تقول الروائية هيفاء بيطار: كم حفرت في روحي العبارة السابقة لسوسن الحجة، عبارة تلخص وتختصر الألم السوري، وتُضيف: قرأتها عرضاً قبل أن أبدأ بالقراءة الممتعة الإبداعية للشاعرة سوسن الحجة التي تكتب بشفافية عالية، تشعر بالخفة والتحرر من ثقل الألم، فتنجح في تحويل الألم إلى نسمات أو ريح، تشذب الزوايا الحادة الجارحة للألم، وأنا أقرأ ديوانها الرائع (هذيان الفضة) أشعر أنني في حضرة روح كأن ثقل الجسد وحضوره توارى، وهي تغوص في أعماق المرأة بعمق وتأمل.
وأخيراً نختم برأي الشاعرة فرات إسبر عن رواية (رائحة البئر) حيث تجدها رواية جذابة في سرد الأحداث على لسان الشخصيات المتعددة والمتنوعة على الصعيد النفسي والاجتماعي والعاطفي.. شخصيات معقدة ومأزومة وفقيرة، ولكنها قوية ومتماسكة في أزمة الحرب، حيث يلجأ البشر إلى بعضهم البعض لسرد هموهم وأحزانهم. وترى أنّ الرواية لم تذهب إلى لغة الفنتازيا، وإنما إلى لغة الحياة والواقع اليومي.. حياة كل بيت يعاني وعانى من الحرب والفقر والموت والخسارات والخيبات.. حكايات تأخذنا معها بشهود يسمعون ويفهمون، ولكن لا ينطقون.