رغم أنه حصر اسمها ب"الرقة" غير إنّ "فرقة الرقة للفنون الشعبية" التي أسهها إسماعيل العُجيلي كانت لسوريّا كلها، وليست للرقة وحسب.. إسماعيل العجيلي (1949- 2025) الذي قال بالأمس "وداعاً" لكلِّ السوريين، ذلك ما منحته الحياة لابن الرقة ليظهر كمعلمٍ ثقافي وفني حاضراً لعقود في مختلف مناخاتها، وسيبقى اسماً جميلاً كفراتها، وجعبرها، ورصافتها.

وأسس العجيلي، فرقة (الرقة للفنون الشعبية)، خلال سنتي (1968–1969)، وبقي قائدها كمدرب ومخرج حتى وفاته واسم (الرقة) يأتي كانتماء حميمي لجغرافيا تزدحم بالحكايا الملونة، فنشاط الفرقة وحضورها توسّع ليشمل المنابر السورية كافة، بل وتجاوز ذلك لعشرات المدن والعواصم العربية والعالمية..

سيرة حافلة جابت سوريا والعالم

فرقة الرقة التي أسسها العجيلي

وربما من المفيد هنا أن نذكر إن أول مشاركة دولية للفرقة؛ كانت في ألمانيا الشرقية سنة (1974) لمدة ثلاثة أشهر كما شاركت الفرقة في مهرجان الأسفار والسياحة العالمي وحصلت على جوائز منها: باريس (1986/1987)، لندن (1988)، مدريد (1985)، ميلانو (1989).. وعروض في أوروبا (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا، اليونان، البرتغال)، ومشاركات في المهرجانات العربية والإفريقية، مثل: "دبي، جرش، قرطاج، والشباب العالمي بالجزائر.".. و آخر مشاركة بارزة كانت للفرقة في الصين سنة 2019 ضمن مؤتمر “حوار الحضارات الآسيوية”، حيث فازت الفرقة بالمركز الثاني بين (35) دولة.

وإذا ما دخلنا إلى أرشيف الفرقة وإسماعيلها اللذان انجدلا معاً كجسدٍ إبداعي واحد، حيث كان يرفدها دائماً بأجيالٍ تالية وجديدة من المواهب الشابة، ومن هنا كان له هذا الرصيد والمخزون الغني من الأعمال الفنية.. أعمال قائمة على (المسرح المثولوجي) إن صحت التسمية، حيث يُقدّم استعراضات مسرحية غنائية راقصة قائمة على تراث منطقة الجزيرة السورية، وباديتها، التي تقوم على الحكايات الشعبية؛ فكانت الأعمال التي شغلت عشرات خشبات المسارح داخل سوريّا وخارجها، مثل: "قمر على الشرق، ليل البوادي، حصار الثكنة، درب الغزلان عرس الصبايا، وغيرها" إضافة إلى عشرات العروض البانورامية التي جسّد من خلالها ملامح فلكورية سورية من مختلف المحافظات والأقاليم السورية، والتي كانت من أبرزها بانوراما: عروض «اللالا والدلعونا»، وفيهما قدّم تلوينات من هذا الفكلور، وكيف يُغنّى في كلِّ محافظة سورية، إضافةً إلى "بانورامات" – ربما أقل مساحةً- مثل: «الجزراوية، الفراتية، الأسمر، ع الماني، والأصايل».

الصحغي فراس الهكار

وثق التراث الشعبي وحوله إلى عروضٍ راقصة متطورة

وهو في كلِّ ما تقدم كان في ذهنه الكثير من الغايات الفنية والإبداعية، مثل: تركيزه على توثيق التراث الشعبي، وجمعه لا سيما من كبار السن، وتحويله إلى عروضٍ راقصة متطورة موسيقياً وتنفيذاً، وذلك من خلال مزج الرقص الأنثروبولوجي بالرقص المعاصر، واعتماد سينوغرافيا حديثة ومؤثرات بصرية لافتة.

الصحفي حسن الخلف

وفي شهادته يذكر الصحفي والكاتب فراس الهكّار – وهو ابن الرقة أيضاً:" ظل العجيلي مخلصاً للتراث الرَّقّي الذي نقله إلى مختلف عواصم العالم من خلال فرقة الفنون الشعبية التي كرّس حياته بكلِّ ما تعنيه الكلمة لها.. فقد عُرف إسماعيل العجيلي عبر الفرقة التي أدارها بإحساس فنان ووله عاشق، فحققت إنجازات عدة ونالت جوائز مرموقة، كما عُرفت به.. فقد ارتبطا لبضعة عقود لم يتوقف العطاء فيها وإن مرت بكبوات خلال مسيرتها الطويلة لكنها كانت تنهض في كلِّ مرة؛ لذا هما كتوءمين سياميين لا يمكن فصلهما، وذكر أحدهما بمعزلٍ عن الآخر، وقد عاشا معاً، ولا أدري ما سيكون حالها بعد ترجل فارسها." ويُضيف: استطاع العجيلي الذي يمكن أن أصفه بـ”الرجل الذي عاش لفنه فقط” أن ينهض بفرقة للفنون الشعبية في الرَّقَّة عندما لم تكن أكثر من بلدة صغيرة وسط بيئة قبلية وعشائرية شبه بدوية ونصف حضرية، وهذه الاستمرارية تعتبر بحدِّ ذاتها إنجازاً له، ناهيك عن المسافات التي قلصتها بين الرَّقَّة ومدن أخرى كانت أكثر شهرةَ وحضوراً على مختلف الصعد.

هي الفرقة التي قال عنها الأديب الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي: “لم يضع أفرادها في بالهم أن يحترفوا الفن، أتوا من مدارسهم مدفوعين بحبهم للموسيقا والرقص والغناء، ليتابعوا تمارينهم القاسية والمستمرة بإدارة هذا الفنان العصامي المبتل في محراب الفن، إسماعيل العجيلي، وليستمروا في أداء أدوارهم في الفرقة، طالما ظلّوا في عمر الشبيبة، وعمر الشبيبة الذي أعنيه هو الأعوام الأخيرة من الدراسة الثانوية، والأولى من الدراسة الجامعية.

الحارس الأمين على التراث الفراتي

وأضاف الهكّار: تخصصت فرقة الرقة بالتراث الشعبي، حيث توالت نجاحاتها، وذاع صيتها، فتخطت خارطة الوطن العربي، ومخرت عباب البحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى القارة الأوروبية. فعرضت أْعمالها على مسارح لندن وباريس وايطاليا وبلجيكا والبرتغال واليونان، وحصدت المركز الأول في باريس عام 1986 عن عملها «برج عليا»، ونالت الوشاح الذهبي بمنافسة 76 فرقة عالمية.

كما ارتبط اسمها بشخصيات هامة من خلال التعاون مع كبار الملحنين والشعراء مثل: زكي ناصيف، إيلي شويري، سمير كويفاتي، شربل روحانا، إحسان المنذر، ميادة بسيليس، خولة الحسن، نوري اسكندر، طلال حيدر، عبد السلام العجيلي، وغيرهم

من جهته، الصحفي حسن الخلف الذي عايش الكثير من مشاريع فرقة الرقة للفنون الشعبية، ورافقها في الكثير من أسفارها؛ يقول لمدونة وطن: "برحيلك اليوم، لا تنكسر فقط فرقة الرقة للفنون الشعبية، بل تنكسر سارية كاملة من ساريات تراثنا الفراتي، التي حملتها على كتفيك ورقصت بها بين الأمم، من فرنسا إلى ألمانيا، ومن الصين إلى تونس، ومن دارك في الرقة إلى مدرجات العالم.".. ويُضيف: العجيلي لم يكن مدرّباً فحسب، بل كان راوياً لذاكرة الجدّات، وسامقًا كالسنديانة في مواجهة النسيان، والحارس الأمين على تفاصيل الزرب، والمهباج، والبيت الفراتي، من البوادي حتى الخشبات العالمية.

بانوراما "اللالا"

يعد الكثير من النقاد إنّ «بانوراما اللالا» واحدة من اللوحات الفولكلورية المتعاقبة ضمن العمل الاستعراضي «أصداء وحنين» الذي قُدم على مسرح أوبرا دمشق.. وهي من ألحان سمير كويفاتي، وبأصوات: ميادة بسيليس، خولة الحسن وعاصم سكر، وهي تمثل باقة تراث بلاد الشام— بما في ذلك وسط سوريا—ضمن تسلسل البانوراما المتنوّع.. فهي تمثّل وتُجسّد الفلكولور، بملامح موسيقية وإيقاعات رقص محلية تقليدية بأسلوبٍ مبني كنموذج بانورامي راقص، حيث تتلاحم اللقطات المتنوعة في مشهدٍ واحد يُبرز التنوع الجغرافي والتراثي لسوريا. فقد استطاع العجيلي أن يُعززها بأسلوبه المميز في الدمج بين الأصالة والتحديث، من خلال مزج حركات الدبكة التقليدية مع لمسات من الرقص المعاصر، إلى جانب أدوات صوتية مثل الربابة الأمر الذي زاد اللوحة كثافةً عاطفية وحركية.