في سنة 1990 بنى للشعر «أبراج العدم» لتكون أولى مجموعاته الشعرية، وفي سنة 1992 مشى في «دروب الرحلة الأبدية» ثاني إصداراته في عالم القصيدة، وتوقف أمير السماوي بعدها حتى سنة 1997 مُصغياً إلى «عظات الصمت» ثالث إصدارٍ شعري لديه. أي أنّ عقد التسعينات شكّل لدى هذا الشاعر إخلاصاً تامّاً للقول الشعري، ومكرِّساً إياه للبحث عن خطواتٍ شعرية مدروسة بعناية.
شواغل أدبية
ومع بدء العقد الأول من الألفية الثالثة، خوّله وعيه في كتابة القصيدة، ولا سيما في شواغلها وبنيتها وجمالياتها المتعددة، أن يكتب النقد إلى جانب القول الشعري؛ فكان له: «بائدٌ كالرماد.. حيٌّ بالأخطاء»، و«السواد في حدّه الأعظمي»، وغير ذلك الكثير من الشعر والنقد. وقد توَّج كلَّ ذلك بإصداره «الأعمال الشعرية».. هذه الأعمال التي تقع في (605) صفحات من القطع الكبير، وتضم المجموعات التي أصدرها عبر مسيرته الأدبية ما بين عامي 1989 و2012. وقد غلب عليها الانزياح الشعري والحداثة والحرص على انتقاء الألفاظ التي ساهمت في تشكيل بنية نفسية شعرية خاصة، عبر كل النصوص التي ظهرت فيها النزعة الذاتية والوجدانية.
الاسم ولد مع الشاعر قبل أن يكتب قصيدته الموزونة، وهو لم يتجاوز الصف الخامس الابتدائي
في المرحلة الناضجة
هذه الأعمال الكاملة التي يقول عنها الشاعر:
«أقدّم نتاجي هذا كمنجزٍ شخصي، وأعلن شعوري الدائم بالفخر به، فكل هذه الأعمال جاءت في المرحلة الناضجة من علاقتي مع الشعر، وجاءت كمحصلات نهائية بعد البحث القلق عن أفضل تطلع صافٍ للوصول إلى أعماق تفاصيل الموضوع الشعري، وغرس متطلباتي السحرية والسرية فيها».
ويُضيف: «لقد قدّمت لي ثقافة الشعر الإنساني وسعيي المضني وراء أجود الخبرات القديمة والحديثة معاً تصوراتي التي تجسدت في هذه الأعمال. كنت دائماً منشغلاً لدرجة أن حماساً وانفعالاً زائدين عن الحد كانا يعيدانني إلى قراءة كل قصيدة، ومن ثم إلى إعادة ترويضها من قساوة معانيها، ومن كثافة تخييلها لتتعقّل، ولتأخذ طابعاً روحياً ونفسياً سلساً مرناً».
وأمير سماوي هو لقب عُرف به الشاعر رجب حسن علي منذ صغره، ورافقه في كل خطواته ورحلاته الشعرية، وحتى في مهنته في المحاماة. أمير المولود في قرية بشبطة بمنطقة صافيتا، والتي ترتاح منبسطة – كما يعني اسمها – في ريف طرطوس بين كروم الزيتون والدوالي والتين.
ويتابع حديثه لمدوّنة وطن قائلاً: «أول من سماني أمير هي أمي، و(سماوي) هي رغبة عدد كبير من الأصدقاء المبدعين، وهو أساس موضوعي الشعري».
وفي شهادته يذكر الإعلامي والشاعر علي الدندح: «الاسم ولد مع الشاعر قبل أن يكتب قصيدته الموزونة، وهو لم يتجاوز الصف الخامس الابتدائي». مضيفاً: «نحن أمام شاعرٍ نزل من أبراج الشعراء العاجية وعوالمهم الخرافية الهلامية ليمشي بين الناس ويكتب عن آمالهم وأحلامهم وهمومهم». ويردف: «أن نقرأ أمير سماوي، فنحن بلا شك أمام قامة كبيرة من الجمال القادر على الإمساك بتلابيب الإبداع من كل أطرافه بما يمتلك من مخزون ثقافي متنوع، يفرغه في كلمات مصقولة ومنحوتة لا تأخذك إلا إلى الإدهاش، وذلك في رحلة غنية بالمتعة الروحية قلما تتوافر إلا لمن أغناه الله بملكة الشعر الراقي».
وعن العناوين التي يختارها الشاعر سماوي، يقول الدندح: «أبراج العدم، ودروب الرحلة الأبدية، وعظات الصمت»** هي عناوين مدوّنات الشاعر سماوي، تحمل سمات مشتركة مثل طباق النص وتعدديته التي تتجاوز غالباً البنية الأحادية، حتى لو كانت عن الحرف نفسه، فهو لا يمنح البطولة المطلقة – بالاصطلاح السينمائي – إلى شخصية واحدة تستبد بفضاء النص الشعري من مستهله حتى منتهاه.
شعر ونقد
إذن؛ بين كتابة القصيدة وقراءتها نقدياً توزعت شواغل الشاعر أمير سماوي. وعندما سألناه: هل يحق للأديب أن يكون حكماً وخصماً في الوقت عينه، وكأن هذه الحالة – الأديب الناقد – تتسع اليوم لتصبح ظاهرة؟
يُجيب: «حاولت أن أطلع على كل ما قيل في ثقافة الشعر، وأن أعتبر النقد محاولات معرفية لتطهير الشعر من عوالم العارض والمؤقت والمرحلي واليومي، وإدخاله إلى عوالم الشمول والعالمية والديمومة ليصبح إنسانياً، وبوجدان صافٍ يكنز ضمير الحياة. وأعني بالثقافة الشعرية هنا: الشاعر الأشبه بالعالم والعارف بالأسرار والمُكنة لمكامن المجهول».
ويردف: «إن المبدع هو من يخوض في البعيد والعميق، وعلى الشاعر أن يمتلك زمام ومبررات الخوض في هكذا مجال. فهو أولاً حكم يعتمد على ذائقة ورؤية وامتلاك تعبيري، وهو ثانياً شاعر خالق لتكويناته الشعرية، قد يتعرض لمدى النجاح أو السقوط فيما أنتج. فهل سيترك لمباضع الآخرين أن تُشرّحه، ومن ثم قد تشوّهه، أم يبذل قصارى جهده لتفادي الضعف والقصور في شعره؟
أرى أن القصيدة الخالدة هي ما صُنعت بإمعان وإتقان وثقافة تجربة مبدعة. الذي سيقف متفرجاً عليها بعد أن يصوغها بعين العقل. لا أسمّي الناقد حكماً، بل هو – من هذا المنظار الذي شرحت – مقوِّم ومعرِّف وموضّح أفكار. وكل هذا يتعلق بموضوع وشكل القصيدة. وقد ميّز بعض النقاد أنفسهم ربما لأنهم انشغلوا بمتابعة ثقافة الشعر وأوجدوا مدارس نقدية، ولم يكتبوا الشعر، ربما لعدم وجود الموهبة والإلهام الخاص بالشعراء، ولكن ذائقتهم تساوي في المحصّلة ولا تزيد عن ذائقة الشاعر المبدع، الذي يجب أن يكون عظيماً حتى يتناولونه بنقدهم العظيم. وهذا النقد كان تاريخياً يستخلص من أجواء القصيدة شكل تطوره وأفكار مدارسه، أي أن الناقد – في المحصّلة – تابع في تحوّله النقدي لقول القصيدة».
«أهيّئ الماء ليفهم التراب،
وأنفخ النار مجرّباً براءة الهواء..
لي وردة أودعتها كوشم قبلةٍ
على أرض الصعاب».
«الشرق أعراس الهزائم»
وفي شهادة أخرى للشاعرة "نصرة إبراهيم" تقول عن التجربة الشعرية للشاعر أمير سماوي:
«الشعر فكرة تراود الشاعر عن ذاتها، فيلتقط كفيها بين أنفاس القصيدة، ويعلّقها ضوءاً على شجرة الأدب، ليشع المعنى حين يفكّ شيفرة بريقها القارئ. ويأتي حبه للمكان حبّاً يتمنى البقاء قريباً منه، لا يريد للعاشق أن ينأى. ثم يناجي معشوقته، فيغدو حبه ذاك رخيصاً. وكما يحضر الوطن الكبير ويتجلّى في قصيدته (الشرق أعراس الهزائم)، نراه الشاعر الثائر على الواقع الذي يعانيه الشرق، وينكر الضعف والهوان والحالة المزرية التي وصل إليها».
مقتبسة من القصيدة:
«شرق الدم الأبيض أعراس الهزائم..
وإلى الشرق قليلاً مأتم النصر..
صارت قضايا الأمم الثكلى مرايا حتفها..
والبطل الذي افتداها صار إرهاب العزائم».
وتضيف إبراهيم: «والحب هذا الشعاع الساطع الحاضر في قصائده، حبّ كامن في القلب سراً يبقى يناجيه في لحظات التأمل، فيطلع في القصيدة وفي الواقع. بدافع الخجل ينأى عنه.. ومن ثم فأمير سماوي شاعر – بتقديري – يعشق التنوير، ويصب ماء المعنى في دنّ القصيدة ليشرب عشاق الشعر نبيذ الجمال».
«لا حول لي كي أحرس الحب،
تداعت أسس قامت عليها قمم الأرض،
وبادت أمم في خزيها،
وابتلع الشرق المواثيق،
وباء الغرب مغلولاً بصنارة أمريكا،