مكتبٌ لِلشكاوَى والعرائض في مدينة جبلة؛ هنا عمل الكاتب والروائي الراحل قمر الزمان علوش 1948- 2022 إلى جانب والده حين كان طفلاً، وفي المكان المُطل على الساحة العامة، تعرّف على الكثير من صراعات الحياة والحقائق التي كان يجهلها، وعلى حد وصفه لتلك المرحلة، في فيلمٍ عن حياته قدمته قناة سورية دراما بعنوان "موانئ": "دخلتُ مُبكراً إلى عالم الكبار، راقبتُ حركات الناس وتنقلاتهم، تأملتُ تصرفاتهم، ربما كنتُ أقرأ في ملامحهم، هواجسهم وأحلامهم، حاولتُ أن أدخل إلى أعماق الأشياء، لا أن أُحاكيها بِمظهرها وبُعدها الواحد"، ويبدو أن هذه الملاحظات كانت عصيّةً على النسيان، يقول علوش أيضاً "هؤلاء الأشخاص انتقلوا فيما بعد إلى عملي الروائي والدرامي، كانوا يُشكلون بذرة الواقع التي تنمو من خلال الخيال، لوحة غير مُكتملة، يُغلفها الضباب، ثم تأتي المُخيلة لتملأ الفراغات، وتُشكّل اللوحة الأخيرة لأولئك البشر".

بداية المشوار

رغم هذا، بدأ علوش مشوار الكتابة في أواسط السبعينات صحفياً لا روائياً، وهي مرحلةٌ يصفها بـ "الغنية بالأفكار والروّاد والنُخب المُلتزمة بالشأن العام، تتميز بالصراع والعراك المُستمر من أجل حرية التعبير، وهو شيءٌ طبيعي في كلِّ المجتمعات"، ليخوض لاحقاً غِمار الكتابة الدرامية للتلفزيون، عبر عدة مسلسلات منها "هوى بحري، الطويبي، طيور الشوك، نزار قباني، أسمهان، كليوباترا"، كما حوّل عدة روايات عالمية إلى أعمال فنية، منها "بيت الأرواح" لإيزابيل الليندي، و"البؤساء" لفيكتور هيغو، وفي ميدان الرواية صدرَ له "هوى بحري، بريد تائه، لحظة رحيل"، وقبل عامين كان مُنتجه الأخير تأليف الفيلم السينمائي "أنت جريح".

هوى درامي

عام 1997 شاهد الملايين مسلسل "هوى بحري"؛ أوّل تعاونٍ بين المخرج باسل الخطيب والراحل علوش، وربما كان النجاح الكبير الذي حققه كأوّل عمل تلفزيوني للكاتب الصحفي، دافعاً لتكرار الشراكة مرتين بعدها. يتحدث الخطيب لـ "مدوّنة وطن" عن التعاون بينهما: "تمتّع علوش بخيالٍ جامح، فقدّم دراما مُشبعة بالمغامرة والخيال والمواقف الغرائبية، مُتأثراً بـ (الواقعية السحرية) التي كانت كما قال مرةً مَرجعاً مُهماً له، حتى أنه قدّم الاقتراح السوري لها فنياً، وفي "هوى بحري" كان هذا اللون جديداً على درامانا، فلم يكن عملاً كوميدياً خالصاً، كما لم يكن تراجيدياً خالصاً بالمقابل".

يستحضر الخطيب ما أحدثه العمل من ردود فعل وما تلقاه من رسائل، إحداها من فتاةٍ خارج سورية، أكّدت أن العمل أعاد لها الرغبة في الحياة بعد أن كانت تُفكّر بالانتحار، وما لا يعرفه البعض ربما أن رواية "هوى بحري" تلت المسلسل ولم تسبقه، حيث جاءت طباعتها احتفاءً من الشركة المُنتجة بالنجاح اللافت.

في لقائهما الثاني، كان مسلسل "الطويبي"، والذي لم يُعرض في المحطات السورية إلى اليوم، رغم إنجازه منذ عام 1998، يُضيف المخرج للمدوّنة: حين أُسأل عادةً عن أحب الأعمال إلى قلبي، أعود إلى هذا العمل، لأنني وجدت بين يدي مادةً درامية غنية وجريئة جداً، قدمتُ من خلالها اقتراحاتٍ إخراجية وبصرية، عُدّت بالنسبة لي خطوةً كبيرةً إلى الأمام، وهو ما ينسحب أيضاً على اللقاء الثالث في مسلسل "نزار قباني" سنة 2005.

ويرى الخطيب أن الرابط المشترك بين الأعمال الثلاثة، روح "قمر الزمان علوش"، الكاتب صاحب المفردات والتعابير الخاصة به وحده، عدا عن أنه لم يكن معنياً بتقديم عملٍ تلفزيونيٍّ أو روائيٍّ بشكلٍ مُتواتر، وهي ميزة قلّما نجدها عند الكتّاب عموماً.

إرثٌ إبداعيٌّ

لا يمكنُ الحديث عن الراحل "قمر الزمان علوش" برأي الكاتب والإعلامي عمر جمعة "دون أن تقفز إلى مُخيلتنا شخصية الإنسان المثقف العارف بتفاصيل ومنعطفات تاريخ المنطقة ومنجزها الحضاري، والأديب المنتمي إلى هويته العربية السورية، والكاتب والروائي الواعي المؤمن بدوره ورسالته، وبأهمية الكتابة في تكريس القيم والمثل العليا، ومحاربة القيم الزائفة أو تلك التي تحطّ من مكانة وقدر الإنسان وتجبره على الخضوع والاستسلام لتقلبات الحياة، سواءً في المستوى الاجتماعي أو الوطني، أضف إلى ذلك سعيه المحموم في كلّ ما كتب إلى تغيير آلية تفكير المواطن المقهور الذي أثخنته التحولات السياسية، وفُجِع بالنكبات التي تتالت على الوطن العربي، تغييراً جذرياً".

يقول جمعة أيضاً في حديثه إلى "مدوّنة وطن": "الراحل ترك بالفعل إرثاً إبداعياً ثقيلاً، يحتاج إلى قراءةٍ متفحصةٍ متأنية، وعلى سبيل المثال، "الكابتن" البحري عبد الله البربور في مسلسل "هوى بحري" نموذجٌ مختلف غير مسبوق، كما أراده علوش، في فلسفة العشق الذي حرّمه وحاربه أهل تلك البلدة المنسية ردحاً من الزمن قبل أن ينسف البربور قناعاتهم ومعتقداتهم التقليدية ويعودوا بكلّ الرضا إلى تعميم هذا العشق في مواقفهم وعلاقاتهم الإنسانية كلها، وكذا الأمر في "طيور الشوك" الذي تدور أحداثه بداية القرن الماضي، وكيف يتحول الحب إلى لعنة، إذ ستنتقم الفتاة الريفية "دام الهنا" بوحشية من نزوات وأنانية وجشع بعض الرجال بعد أن حاول آغا المنطقة اغتصابها، لتوصله مشلولاً ضعيفاً إلى الكرسي المتحرك".

يُشير جمعة إلى شغف علوش بالرواية العالمية كسيناريست، وبالسيرة الذاتية للأعلام والشخصيات التاريخية في الشرق، كما رأينا وشاهدنا في مسلسلات: "نزار قباني، أسمهان، كليوباترا"، فضلاً عن أفلامه التي حققها وكانت علامةً في تاريخ السينما السورية، اختتمها بفيلمه الروائي "أنت جريح" الذي يحكي قصصاً واقعية وإنسانية حدثت خلال سنوات الأزمة.

شغف المغامرة

بدورهِ الكاتب والناقد أحمد علي هلال، يرى في مُقاربة شواغل الكاتب والروائي والسيناريست علوش، مغامرةً محفوفةً بالشغف وحده، لأنه في أعماله الدرامية وعددٍ من الروايات، آخرها روايته السينمائية قيد الإنجاز "بستان الموت"، وفي انتقاله كذلك من الرواية إلى الرواية التلفزيونية وإسهامه في الرواية التلفزيونية التاريخية، قدّم وعي المثقف بجدلية العلاقة مع التاريخ والتراث.

يقول هلال لـلمدوّنة: "علوش صاحب رؤيا، مثقفٌ جدلي مضى إلى التاريخ شاهداً يطرح الأسئلة ولا يجيب، مثقفٌ نجيب في سؤاله عبر الدراما والرواية، "كليوباترا" وغيرها، مروراً بما أعدّه عن رواياتٍ عالمية، كان المعني بتأصيل الأسئلة، فكراً وممارسةً، وهو الصحفي اللامع من قبل ومن بعد لكنه أيضاً صاحب المشروع الذي يُعنى بالتوثيق من وجهة نظرٍ معرفية "أسمهان"، "نزار قباني"، والأدل تلك السياقات التي عمل فيها وعيه لإنجاز ذاكرةٍ ثقافيةٍ لا تتعلل فحسب بالمُنجز الروائي بل تذهب أبعد من ذلك، أي إلى أصالة المشروع الذي يمثله".

وبيّن الناقد أن علوش أرسى قيم الحكاية المعاصرة عبر تنوع أعماله وتعددها، "ليعكس مفهومه للتعدد كمبدعٍ قادرٍ على صوغ مفهوم حداثة التنوير، ووعي التاريخ لإنجاز هوية المُعاصرة، رجلٌ في مؤسسة ومؤسسةٌ في رجل، الأكثر انحيازاً لمفهوم الإنسان في جدل وجوده وشرطه الإنساني النبيل".