تعتبر"منبج" مدينة عظيمة حيث مكنها موقعها الاستراتيجي بين بلاد الشام وأوروبا من أن تحوز اهتمام أباطرة الرومان والآشوريين، فجعلوا منها حصناً عظيماً وقف في وجه الفرس الطامعين في السيطرة عليها.

تقع مدينة "منبج" شمال شرقي حلب على بعد 80 كم في فضاء واسع مرتفع عما حوله قليلا ينحدر نحو الفرات في الشرق، وتبعد عن ضفته الغربية 15 كم، وتمتد نحو نهر "الساجور" في الشمال ونهر "أبو قلقل" في الجنوب وهما من روافد الفرات، حيث اطلق عليها قديماً عاصمة سورية الفراتية.

"منبج" بلد قديم وما أظنه إلا رومياً، وهي مدينة كبيرة واسعة ذات خيرات كثيرة وأرزاق واسعة في فضاء من الأرض، كان عليها سور مبني بالحجارة محكم بينها وبين الفرات ثلاثة فراسخ، وشربهم من قني تسيح على وجه الارض وفي دورهم آبار أكثر شربهم منها لأنها عذبة

مدونة وطن eSyria بحثت بتاريخ 20/6/2013 في كتب ومراجع التاريخ حيث كتب الدكتور "وليد مشوح" في كتابه "حضارة وادي الفرات" عن مدينة منبج بالقول: «منبج مدينة عريقة في القدم كان لها شأن قبل الإسلام وبعده يرجع تاريخها إلى ما قبل الحثيين في هذه البلاد وكانت العاصمة الدينية لكل بلاد الآراميين الذين كان لهم ممالك على شواطئ الفرات وفي بلاد ما بين النهرين وداخل سورية، عرفها الاشوريون باسم (نابيجي) او (نانبيجي) في عهد الملك "سالمناصر"، وجاءت في الكتب المسمارية باسم (بامنبوكي) ويمكن إرجاعها إلى اللفظة الآرامية "مابنوك" ومعناها الماء المتفجر أو المنبع أو النبع، سميت بهذا الاسم لوجود عين ماء عظيمة فيها تعرف باسم (الرام) تدين لها المدينة بوجودها وازدهارها لأنها على طريق تجاري، ولما جاء اليونانيون السلوقيون سموها (هيرا بوليس) ومعناها المدينة المقدسة لتقديس سكان المنطقة لها، وهناك من سماها (يره بوليس) مدينة الإله، ويسميها الفرنج "مينكز" و"مابيجوم"، وجاء في تقويم البلدان أن بعض الاكاسرة ملوك الفرس الذي غلب على الشام بنى منبج وسماها "منبه"، وبنى بها بيت نار ووكل به رجلا يسمى ابن دينار من ولد اشير بن بابك"».

الساحة الرئيسية في مدينة منبج

ويضيف "مشوح" بالقول: «لما استولى الرومان على سورية تملكوا منبج، ومنذ القرن الثالث الميلادي كانت منبج مركزاً لتجمع الجيوش الرومانية في الشرق للدفاع عن سورية ضد الفرس، وصارت من اهم مراكز الجيش الروماني الذي كان يفد على ميناء السويدية ويمر بإنطاكية ثم يأتي إلى منبج ليتوزع منها ويساق إلى المراكز في بلاد ما بين النهرين على الحدود الفارسية الرومانية ويتمركز في الحصون على الخابور».

ويشير الباحث المرحوم "عبد القادر عياش" بالقول: « رفع الامبراطور "قسطنطين" مكانة منبج فأصبحت عاصمة سورية الفراتية، وكانت مدينة محصنة أشاد فيها الامبراطور "يوستنيان" اسوراً منيعة عجز عن اقتحامها كسرى الأول "أنو شروان" عام 540هـــ لما زحفت على رأس جيش من 30 ألف جندي على سورية، فاكتفى بمطالبتها بـ3 آلاف دينار دفعتها واشترت بها سلامتها، وفي العهد البيزنطي كانت منبج أحد المراكز المهمة لأصحاب عقيدة الطبيعة الواحدة في المسيح، وفي سنة 1302 هــ أمر السلطان عبد الحميد بترميم جامعها القديم وهو من آثار نور الدين الزنكي الذي بني سنة 551 هــ كما هو مرقوم على حجر في مئذنته وأمر ببناء مدرسة على نفقته أيضاً».

منبج كما محدد في الأسود من غوغل ارث

ويتابع "عياش": «عدا المكانة العسكرية التي كانت تتمتع بها منبج فقد كانت لها مكانة دينية قبل النصرانية، حيث كانت مركزاً لعبادات وثنية للآراميين سكان البلاد وغيرهم من الآسيويين، وكان فيها هيكل فخم وغني وهو اعظم هياكل الآراميين في بلاد سورية في ذلك العهد كان يعبد فيه رب العواصف "هادا دورية" المياه (اتراكاتيس) التي كانت تعد ايضاً ربة البلاد السورية، وكان تمثال هذه الربة يمثلها معتلية مركبة تجرها الأسود في يدها آلة موسيقية وعلى رأسها تاج وقد انتشرت عبادة الربة (اتراكاتيس) عند اليونانيين في جيش ملوك سورية وفي أوروبا على يد التجار اليونانيين والسوريين الذين كانوا يصلون إلى اوروبا، وبعد انتصار النصرانية وانتشارها تلاشت عبادة الأوثان في منبج وحل مكانها تقديس آثار القديسين لاستعداد أهل منبج لذلك وتأصل الروح الدينية فيهم، وبنيت فيها عدة كنائس كان أجملها من الخشب، كما كان بها كنيسة للقديسة ماري، وكنيسة للقديس توما».

ويصف الرحالة الأندلسي "أبو الحسين محمد بن أحمد جبير" في كتابه "رحلة ابن جبير" عام 580 هـ بالقول: «منبج بلدة فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، يحف بها سور عتيق ممتد الغاية والانتهاء، جوها صقيل ومجتلاها جميل، ونسيمها ارج النشر عليل، نهارها يندي ظله وليلها كما قيل فيه سحر كله، تحف بغربيها وشرقيها بساتين ملتفة الأشجار مختلفة الثمار كانت من مدن الروم العتيقة ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها ولها قلعة حصينة».

ويقول "ياقوت الحموي" عام 621 هـــ في معجم البلدان: «"منبج" بلد قديم وما أظنه إلا رومياً، وهي مدينة كبيرة واسعة ذات خيرات كثيرة وأرزاق واسعة في فضاء من الأرض، كان عليها سور مبني بالحجارة محكم بينها وبين الفرات ثلاثة فراسخ، وشربهم من قني تسيح على وجه الارض وفي دورهم آبار أكثر شربهم منها لأنها عذبة».