للأنوثة طابع مميز يظهر جلياً بكل ما تقوم به المرأة من أعمال ويختلف هذا الطابع بين أنثى وأخرى، وهو ما نسميه البصمة الأنثوية. وللرواية الأنثوية أو النسوية على وجه التحديد خصوصية جميلة تستحق الوقوف عندها وقراءتها بكل تمعن وتأنٍ.

فعندما تكتب المرأة فإنها تكتب بوجدانها وتغدق من عواطفها المتقدة على شخوصها وتخلق عالماً خاصاً بها.. وبإبداعها الذي لا يقترن بالزمن أو بازدياد الخبرة، إنما هو وليد فطرتها الأنثوية.

لو أغفلنا اسم كاتب العمل، وعرضناه على أي مهتم بالأدب لقال ومن دون شك إن مبدعة لا مبدعاً من خط سطوره، فالأديبة استطاعت ودون كبير جهد أن تقنعنا بانحيازها للأدب النسائي، باحثة في ثنايا عملها عن شروط مؤسسة لهذا الأدب، متكئة على انجازات سابقة لمبدعات مؤسسات

وقد نجد في رواية الدكتورة "نجاة عبد الصمد" الأولى "بلاد المنافي" أكبر دليل على قدرة المرأة على خلق إبداعها الذاتي وخصوصية نتاجها الذي لا يشبه أحداً سواها، وفي قراءة نقدية لتلك الرواية التي لقيت إقبالا واسعاً من محبي الثقافة على قراءتها.. سجل موقع eSuweda الانطباعات التالية:

الدكتورة "نجاة عبد الصمد"

حيث تحدث الروائي "فوزات رزق" في دراسة حول الرواية موضوع الحداثة والتقليد في الرواية قائلاً: «حينما نتناول العمل الروائي الأول لأحد الأدباء، لابد لنا من أن نأخذ بعين الاعتبار أن الكاتب محكوم بالتجريب، فهو حتى الآن لم يجد لنفسه خطاً واضحاً يتميز به من حيث بناء الحدث وطريقة السرد ورسم الشخصيات وتمثل الحيز الروائي، وغير ذلك من الأساسيات التي تساهم في إنتاج عمل روائي متكامل.

وقلائل أولئك الذين بدؤوا من حيث انتهت إليه الرواية الحديثة التي هضمت ما سبقها من تجارب واختطت لنفسها طريقاً يتسم بالتفرد.

الروائي "فوزات رزق" مع كاتبة العمل

وبداية دعنا نسلم أن الإبداع يسبق التقعيد، فقد كان الشعر ثم تلاه النقد، وكانت الرواية ثم استجرت النظريات النقدية بدءاً من نظرية النقد الفني، ومروراً بالتحليل النفسي والشكلانية وانتهاءً بالبنيوية والتفكيكية.

والرواية التي نتصدى لها اليوم هي الرواية الأولى للدكتورة "نجاة عبد الصمد" وقد صدرت عام 2010 عن دار الكوكب التابعة لدار الريس الشهيرة، وتقع الرواية في مئتين وثلاث وخمسين صفحة من القطع المتوسط، وقبل الشروع بدراسة هذه الرواية لابد من الإشارة إلى أن الرواية جديرة بالقراءة فهي تكشف عن إمكانية واضحة في مجال السرد، ولاسيما أن الأديبة استخدمت أسلوباً حداثياً في بناء هذا العمل، وكان يمكن أن يكون له شأن لولا الترهل الذي أصاب بعضاً من فصول الرواية.

الأستاذ "زياد عرنوس"

تتحدث الرواية عن كاتبة تعجب بشاعر شاب قاربها في العمر ويسبقها قليلاً في التحصيل الدراسي وكثيراً في التجربة، تقدم له روايتها الأولى لتأخذ رأيه في إمكانية نشرها في دار النشر التي يملكها، ويتباطأ بالرد.. ومن هنا تأخذ الرواية مسارين متباعدين ما يلبثان أن يلتقيا ما قبل النهاية، ليستمر أحدهما فيما ينقطع الآخر.

فالمسار الأول للرواية يعرض مسيرة حياة الشاعر، والذي جمع الراوية معه هم الكتابة، فيسبقها فيما بقيت تراوح، وأول معرفة لها به كانت حينما تلقت المدرسة دعوة لحضور أمسية شعرية يحييها ذلك الطالب الجامعي، فاحتالت على أهلها لحضور الأمسية، ومن تلك الأمسية تعلقت به وهتفت في سرها: "أخذت قلوبنا فاحرص عليها"، وسوف تمر سنتان حتى يلتقيا ثانية مصادفة فيمازحها بلا مبالاة: "هل أنت شاعرة أيضاً أيتها الصغيرة؟!".

ثم تنتقل الرواية لاستعراض مسيرة حياته وسفره لإتمام دراسته الجامعية في بلغاريا، وفي فصل آخر تنتقل الكاتبة إلى فرنسا حيث تلتحق بزوجها الطبيب في إحدى مستشفيات باريس، وتسهب في وصف حياتها القلقة في مدينة النور، على الرغم من أن زوجها كان لا يدخر وسعاً في أيام العطل في اصطحابها إلى أكثر المعالم السياحية في تلك المدينة العريقة ومع ذلك "فقد ظل قلبها منشوراً على حبل الغسيل في السويداء".

وتتبادل مع الشاعر الرسائل والكتب، فيعلمها أنه أخيراً التجأ إلى القرآن وانكب على قراءته، وعود على بدء تخبرنا الراوية في نهاية روايتها برأي الشاعر في روايتها عبر رده الذي يقترح فيه التريث في النشر حيث قال: "إن بنيان الرواية تقليدي، وشخصياتها عادية بل بائسة، ليس في أي منها ثمة تشويق أو بريق".

أما المسار الثاني فهو يشتمل الرواية التي قدمتها الراوية الكاتبة للشاعر لأخذ رأيه في نشرها، ويبدو أنها اعتمدت أن تكون بأسلوب أدنى بكثير من المسار الأول، إذ تحكي الرواية حكاية عائلة علي أحد أبطال روايتها ورحيلها من "مجدل شمس" في "جبل الشيخ" إلى "السويداء" لتقيم فيها إقامة دائمة، وتتحدث مطولاً عن تاريخ الأسرة في المجدل ومعاناة أبي علي أثناء العمل في أرض البيك الذي لم يترك فرصة إلا استغلها في إيذائه، فأخذ يفكر جدياً في الرحيل إلى "السويداء".. ثم تعرض الرواية معاناة هذه الأسرة في بداية وصولها "السويداء" حيث أخذ أبو علي يعمل في زراعة أراضي صاحب البيت الذي استأجره، فيما أخذت أم علي تتعلم على يد جارتها فنون التطريز، أما علي الذي فتنته حجارة "السويداء" فاختار دون تردد مهنة بناء الحجر على يد المعماري صاحب البيت الذي غدا معلمه.

ولا تلبث الرواية أن تنفتح على مسيرة مجموعة من الشخوص، ثم تتبع مسيرة كل من هذه الشخصيات بدءاً من سراج الطموح المتفوق، مروراً بمنير وأحمد اللذين تعثرا في دراستهما في المدرسة، إلى محسن الذي رأى مستقبله في ليبيا فعاد فاشلاً».

هذا باختصار عرض للمسارين اللذين تناولتهما الرواية، أما فيما يتعلق بالبنية السردية أو طريقة التوليف، أضاف الأستاذ "رزق" قائلاً:

«لجأت الكاتبة إلى أسلوب التداخل الروائي "الرواية داخل الرواية" وذلك حينما تداخل المساران اللذان انتهجتهما "نجاة عبد الصمد" في روايتها، إذ يبدأ المسار الأول عندما تقدم البطلة روايتها للشاعر، ثم يبدأ سرد فصول الرواية، ويتخلل فصول السرد هذه سرد الفصول التي تتحدث عن علاقة الكاتبة بالشاعر، فتستعرض مسيرة حياة منوعة في هذا المسار.

فعلي حين يتم السرد بضمير المتكلم "أنا" في الحديث عن الشاعر، والأنا هنا هي أنا الكاتبة البطلة التي تلتزم السرد منذ بداية علاقتها بالشاعر حتى سفره إلى بلغاريا، ثم تسرد سيرته في صوفيا وهي بذلك تشير إلى أن هذه المعلومات منقولة لها وليست من عندها، ثم تعود لتتحدث عن الرسائل المتبادلة بينها وبين الشاعر، وتنتقل بعد ذلك لتتحدث عن رحلتها إلى باريس وشعورها بالوحشة.

وكل ذلك السرد كان بطريقة الاسترجاع، وزمنه خارج الزمن الفعلي، إذ كان الزمن الفعلي للرواية خمسة وعشرين يوماً، ابتدأت حين سلمت البطلة الكاتبة روايتها للشاعر، وانتهت حين جاءها الرد بعد خمسة وعشرين يوماً ليعلمها أن روايتها ذات بنيان تقليدي، أما الزمن الآخر فيمكن أن نسميه الزمن الاعتراضي».

الأستاذ "زياد عرنوس" تحدث في دراسة بعنوان الرواية النسوية وإشكالية التصنيف عن الرواية بقوله: «لو أغفلنا اسم كاتب العمل، وعرضناه على أي مهتم بالأدب لقال ومن دون شك إن مبدعة لا مبدعاً من خط سطوره، فالأديبة استطاعت ودون كبير جهد أن تقنعنا بانحيازها للأدب النسائي، باحثة في ثنايا عملها عن شروط مؤسسة لهذا الأدب، متكئة على انجازات سابقة لمبدعات مؤسسات».

أما عن جماليات خطابها الروائي، فأضاف: «في خطاب الواقع تحاكي الرواية الأحداث والشخصيات والمواقف ولحظات التأزم النفسي والمصيري في شرطها الإنساني وسياقها الموضوعي والنموذجي عبر الصورة والإيحاء مرة وفي مرات كثيرة عبر نزعة فوتوغرافية تسجيلية، ساندت الرواية في الوصول إلى هدفها، ولكنها أثقلت كاهل الرواية بكاميرا بطيئة تلتقط الصورة ببطء وتمهل ولكن بدقة.

وحاولت الأديبة الانطلاق بكاميرا الرواية التسجيلية خارج المكان المعروف جيداً للأديبة، هذا المكان الذي رسمته بمهارة ودقة أفضل.

وكثيراً ما لجأت الروائية إلى السرد الجميل، بلغة شاعرية موحية ومؤثرة في تناولها للهم الاجتماعي والسياسي والإنسانين وإن أولت الهم الاجتماعي بتفصيلاته من عادات وتقاليد وزواج وطلاق وخرافات وخيانة وحب مقموع وفقر واغتراب ومنافي.

ووفاء من الأديبة لرواية نسوية عموماً وسورية على وجه التحديد، أزاحت اللثام عن لغتها.. لغة الشخصيات فقاربت تلك اللغة قصيدة الشعر وحاولت تفكيك اللغة لتقدم عبق الحروف وجمالياتها.

معرية اللغة من عالمها الحقيقي الواقعي لتصل بها إلى ذرا الشاعرية المجازية، وكأنها تخرج من عالم التسجيل الواقعي لتزينه باللغة المجازية دفعاً للتقليد الذي وقع فيه غير الروائي، وأخص الشباب منهم في الفترة الأخيرة».