حمل مهرجان "العجيلي" السادس للرواية العربية عنواناً لافتاً، هو "المحظورات في الكتابة الروائية العربية"، وطُرحت موضوعات نقدية تناولت قضايا السياسة والدين والجنس في الرواية العربية.
موقع eRaqqa التقى الأديب "محمد جاسم الحميدي"، حيث تحدث عن الجلسات العلمية للمهرجان قائلاً:
في التشكيل لست مجبراً على التفاصيل والشبه الفائق، فالمتلقي يشاهدها ويجسدها حسب ثقافته بينما في الأدب أنت معني بالكثير من التفاصيل والجزئيات لإقناع القارئ لذا ما كنت أقنع بشخصية أكتبها إن لم تكن مجسمة كما لو أنني أراها بين السطور بلحمها ودمها تتحرك أمامي..! ولعلي وفقت في أن تكون "اللحاف" رواية تشكيلية كما كنت أحلم، أو لعلي في نظر البعض بدوت كمن يحاول أن يتلذذ بطعم القهوة في كوب من الشاي
«تحدث "آدم قومندان حسب النبي" من السودان عن رواية "الطيب صالح"، "موسم الهجرة إلى الشمال"، واصفاً إياها بعروس الروايات العربية، وهو معجب به شأنه شأن كل مثقف عربي، ويقول عنه: امتاز "الطيب صالح" بمهارته في تفجير طاقات اللغة إلى أقصى مدى، حتى يلازم الشكل المضمون، وهذا أحد أسرار إبداعه، لقد استخدم المفردات اللهجية بذكاء فجاءت تشبيهاته من الواقع نفسه، وبنفس العفوية دلق كل مشكلات السودان في قصصه، ومنها الموضوعات المؤرقة في مسألة الفروق العرقية، وكانت الصوفية الملاذ الوحيد لتذويب الفوارق في وطن تعددت فيه الثقافات والأعراق.
ومع أنه قطف قصصه من رحم ثقافة محلية شديدة التميز، إلاّ أنه تجاوز سودانيته إلى فضاء أرحب.. الرواية عند "الطيب صالح" أغنية ذات إيقاع سلس، تضم التضاد والتناقض، وشخوصه وحدات مرتبطة بمرجعيتها الحضارية والوجدانية تمشياً مع مجريات النص.
صوّر في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" التقابل بين الحضارة السودانية والانكليزية، فـ"مصطفى سعيد" يعيش المأزق الوجودي للإنسان ككل، فهو من طينة غير طينة السودانيين القرويين، وكان على موعد مع الموت دائماً، وهو نموذج لا منتمٍ للحياة ذاتها، فهو شخصية غربية تجاوزت الإحساس المباشر بالأشياء والمشاعر القوية، وهو بالتالي صاحب شخصية متعددة ومركبة، ولعل ذلك ما جعله يدمر نفسه.. وهو بالتالي إنسان موجود في كل إنسان بيننا..!
وإذا تجاوزنا الشخصية وتحدثنا عن المحظورات في كتاباته، نقول: ليس هناك مقياس ثابت يناسب الإبداع الفني، إلاّ المعايير الجمالية والفنية المستقاة من السياق الثقافي الخاص بمجتمع معين.. والإبداع الفني لا يتأثر بفعل الجنوح، فالأقدمون متسامحون، ويقدّرون النبوغ الفني، ومن ذلك أنهم يقولون: إن شعر "حسان بن ثابت" الجاهلي أجود من شعره الإسلامي.
لقد أُتهم "الطيب" في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" بالجنوح إلى ترديد العبارات المكشوفة أو الفاضحة، وتصوير الحوارات، والمشاهد الجنسية، والاتهامات الأخرى مثل اتهامات السيدة "صافيناز كاظم" من المنظور الأخلاقي والتطهري، وقد رد الدكتور "الفاتح إبراهيم" على السيدة "صافيناز" قائلاً: إنها قرأت الرواية نصاً ولكنها لم تلامس روحها، ونظرت إليها بعين المصلح الديني وليس بعين الناقد الأدبي.. إن "مصطفى سعيد" لم يكن سفاح نساء، وأدب "الطيّب" ليس بعضاً من مسيرة الهوس الجنسي، وغزوات "مصطفى سعيد" لا هي تعبير عن فحولة، ولا عن خصومة حضارية مع الغرب، بل هي حالة وجودية تتصارع فيها القيم بشتى السبل والأشكال لا لكسب المعركة بل لإثبات الوجود أياً كانت الوسائل».
وحول مصطلح "الرقيب الإيجابي"، يتحدث "الحميدي، قائلاً: «قدَّم الروائي والقاص السوري "نصر محسن" شهادة تحدث فيها عن الرقيب الذي يسكننا جميعاً، سواء أكنّا فرداً أو مجتمعاً كاملاً، والرقيب أياً كان يحرضك دافعاً إياك إلى واقع محبط، يجعلك مفردة متمردة، أو لبنة نافرة، وإن بدأت الكتابة فأنت تتلفت حولك، وكأنك تمارس فعلاً محرماً عليك..
يجعلك الهم مغواراً مشاغباً، يقودك رقيبك الجميل نحو عالم ممتلئ بالرقباء غير الجميلين، ينظرون إليك بازدراء، ويرون في شغبك تطاولاً، وفي جرأتك محاولة للفوضى، لك عينان حادتا النظر، ولك لسان أخشن من مبرد.. تطمح لرؤية وطن جميل، فتحاول المساهمة في بنائه، ولكن المحظور يقف دائماً في وجهك، فبناء الوطن هو عمل السياسي وليس عملك، فإما أن نؤيد ما يُطرح وإما أن نتنحّى..
إذا كان صوتك مصادراً فأنت ستحاول إيجاد منفذ له محاولاً كسر ما هو سائد ومألوف، كيف تجد المنفذ: هل يكفي تضمين نصوصك بالرموز الموحية، والكلمات النادرة؟ أما زالت الديكة توقظ الناس؟
يساعدك رقيبك الجميل، يكشف لك المستور يعريه، يعترض عليه ويرفضه، محرضاً إياك على الابتكار، لم يبق اعتماد الرمزية هروباً من الرقابة، وإنما غدت مدرسة بحد ذاتها، ماذا يمكنك أن تضيف أيضاً لنتجاوز ما اعتاده الكتاب للهروب من الرقابة أثناء الصدام مع المحظور؟
تعود إلى طفولتك وتلجأ إلى الفعل الغرائبي، وللموقف المنافق، الجملة المنافقة الحاملة لأكثر من وجه.. ولأننا نريد النهوض بوطننا ومجتمعنا وإنساننا يحق لنا الإكثار من المواقف الموحية في ملامسة المحظورات من القيم، كما يحق لنا أن نسمي شخصياتنا كما نريد، علّنا بذلك نعيد الوظيفة الحقيقية للديكة والجياد والعصافير.
يستخدم الكاتب الرقيب لأداء عملين متضادين، فالرقيب إيجابي حين يحرضك على التمرد وتجاوز المألوف، لكن هناك رقباء غير جميلين يريدونك أن تبقى تحت سقف المسموح وحده..! لقد تحدث عن رقيب داخلي فقط دون الحديث عن الرقيب الخارجي، فقال باختصار: لا أرى محظوراً أبداً إلا فيما يُساء فيه إلى الوطن، أما الباقي فهو غير محظور».
وتحدث الأديب "إبراهيم العلوش" في شهادته عن هموم المكان المحيط بنا، قائلاً: «تشكو الروايات العربية السورية من غياب المكان فيها، إلا أن الحال هذه تغيرت مع الروايات السورية الحديثة، بل لقد أصبحت تلك الروايات تحتفل بالمكان وبمسمياته. فلماذا لم يكن الروائي يهتم بالمكان، وما الجديد الذي جعله يهتم به الآن؟!
منذ الستينيات انشغلنا بالهموم القومية والاشتراكية، وهما معاً يبتعدان عن المحدد، أو عن المحلي لمصلحة ما هو أوسع، إن الايدولوجيا، كل أيديولوجيا تعمم، وهذا التعميم يتناقض مع الإبداع الفني، ومع الرواية التي يجب أن تكون خاصة، بأشخاصها، وبأمكنتها وبلغتها أيضاً..».
ويتابع "العلوش"، قائلاً: «اشتغل "زكريا تامر" خارج هذا المجال، ولم يهتم باللحاق بالقطارات الكبيرة، بل اهتم بشخوص فريدة ومهمشة، وبأمكنة وأزقة عتيقة، ومقابر للغابرين وقد عانينا لكي نكون "زكريا تامر"، وعانينا أكثر لكي نخرج منه أيضاً، ولا نظل داخل معطفه، وعلينا الآن أن نجد أبطالنا الجدد، أفكارنا الجديدة، وأمكنتنا الحيوية...!
يبدو التعميم في غير مكانه، فليست الأيديولوجية، هي التي غيبت المكان حتى لو كانت بعض أسباب غيابه حقاً، ذلك الغياب سببه الأكبر أن ليس ثمة روايات قبل الستينيات في سورية، وقليلها لا يمكن القياس عليه..!».
وتحدث الدكتور "هايل الطالب" عن موت المحظور الجنسي عند عدد من الروائيات السوريات، قائلاً: «لابد من طرح أسئلة تلم بقضايا المحظور الجنسي ثقافياً وفنياً، ومنها ثقافياً: لماذا تثير كتابة الروائيات عن الجنس الزوابع الإعلامية في حين يكون الصخب أقل عند كتابات الروائيين؟ هل صارت الكتابة عن الجسد بجرأة موضة للوصول السريع؟ هل ما زال المحظور الجنسي حاضراً أم أنه تلاشى؟ هل تخلت الكتابة عن ثقافة تجميل الواقع وهي تسعى الآن لفضح المخبوء؟ لماذا بدأت الروايات العالمية تبحث عن بؤر دلالية قائمة على الإدهاش في حين ما زالت الرواية العربية قابعة في البحث عن التابو؟ أما زالت هذه المحظورات تدهشنا في عصر الفضائيات؟ وهل فقد التابو قيمته، وعلينا البحث عن فنيات أخرى للرواية؟
ومنها فنياً: هل كانت الكتابة عن الجسد حاجة بنيوية للرواية؟ هل كان اعتماد المفردات الجنسية الصريحة مسوغاً فنياً؟ هل ما زال موضوع الجسد كما عرض في الروايات المدروسة من الموضوعات التي ما زالت تحقق إدهاشاً فنياً؟
وما مدى الاختلاف في طرق المعالجة؟ أليست الكتابة الروائية في العالم الآن تبحث عن المدهش غير المطروق بأساليب تعبير جديدة؟».
وتحت عنوان "صناديقهم السوداء"، الروائية المصرية "مي خالد"، تحدثت في شهادتها حول المحظور في الرواية العربية، وقدمت شهادتها وعلاقتها بالأدب وبأعمالها، بقولها: «في صباح أحد الأيام وجدت دميتي مكسورة الرقبة، وكانت عاجزة عن البوح لي باسم قاتلها، فكرهت عجزها، وبحثت عن متعة خاصة لي، بحيث أكون دمية نفسي، ولكن دون عجز الدمى، وهكذا رحت أغزل الحكايات الشيقة.. وصولاً إلى اكتمال عدتي في الخلق والابتكار.
لن أتطرق إلاَّ إلى محظوري الخاص، أما المحظور التقليدي في الثالوث المحرم المكون من الدين والجنس والسياسة، فقد تغلبت عليها باللغة التي هي أداة مراوغة، وطيعة في يد المبدع الذي كلما تمكن من أدواته الأسلوبية، ازداد دهاءً وتحايلاً لتوصيل المعنى دون أن يُمسك عليه دليل. ومع أن الخوف هو الذي دفعنا لإتباع هذا الأسلوب في الكتابة، فقد وجدت القراء والنقاد يصفقون لي لأنني لم أقع في فخ المباشرة، وهم لا يعرفون أنهم صفقوا لضعفي وخوفي..!
أما محظوري الشخصي الذي تحول إلى "فوبيا" أو هاجس مرضي، فهو ليس الخوف من أن يمسك بي الرقيب، أو أحد المتعصبين دينياً، بل رعبي الحقيقي من أن يطّلع أبطالي على المخبوء من حياتهم وشخصياتهم التي كانوا يظنون أنها ستظل بعيدة عن الناس، غافية في صناديقهم السوداء. في قلب السكون الدامس تظهر "نداهة الحكي"، فتدس قلمها بين أصابعي، وتملي علي الحكايات، فأغيب حتى مطلع الفجر في تدوين نقائض وتسجيل خيبات..!».
ويتحدث الأديب والفنان "أيمن الناصر"، حول تجربته الروائية الأولى في رواية "اللحاف"، قائلاً: «كنت أحلم بكتابة رواية تشكيلية آسرة، بلغة نظيفة، ساعياً إلى مزيد من الصدق والعفوية محولاً الهدف من إغراء العين وإمتاعها في التشكيل إلى كشف أغوار النفس البشرية التي لا تلمح فيها الألوان الصريحة المباشرة، ولا تلمس كتلاً قادرة على البروز بل أفكاراً وهواجس رابضة في اللاوعي.
منذ مرحلة الطفولة والمراهقة التي عشتها على شاطئ "الفرات" كنت مشدوداً إلى الحياة الطبيعية العفوية البعيدة عن التعقيدات الاجتماعية في كنف أبٍ مديني انخرط في شبابه بفن الرسم وكتابة القصة.. مبتعداً عن السياسة، ومتطهراً منها بالفن والأدب.
في الثلاثين الأخيرة التي مرَّت من عمري كنت ألجأ إلى الطين أصادقه، وأكسب ثقته خاصة وأمنحه الحياة، فيمنح روحي الدفء.. ومهما كان نوع المادة التي أتعامل معها، الورق والقلم، أو الصلصال أو العدسة، فإنني أتساءل ماذا أريد من هذا كله؟ هل أنشد المتعة أم أبحث عن الدهشة في عيون الآخرين؟ أم أن الطفولة التي تسكنني هي التي تدفعني لهذا الفضول المتجدد في أن أكون..؟
كتبت قصة قصيرة بعنوان: "اللحاف"، وأطلعت عليها صديقاً أثق به كثيراً، فاستغرب قائلاً: أين ذاكرة الفنان؟ أين خيالك ومخزونك البصري فيها؟ تحتمل قصتك أن تكون رواية لو تركت أفكارك فيها تتوارد عفو الخاطر... أخذت بكلامه واشتغلت عليها معيداً ترتيب أثاث ذاكرتي من جديد، وقد نالت الشخصيات الرئيسة في الرواية اهتماماً بالغاً، وهذه الشخصيات هي: الفنان "حمزة الحمداني"، و"سيد عثمان" مدرس الانكليزية السوداني الوافد إلى اليمن، و"زياد" مدرس التاريخ، و"عائشة" زوجة "سيد"».
ويضيف الناصر"، قائلاً: «في التشكيل لست مجبراً على التفاصيل والشبه الفائق، فالمتلقي يشاهدها ويجسدها حسب ثقافته بينما في الأدب أنت معني بالكثير من التفاصيل والجزئيات لإقناع القارئ لذا ما كنت أقنع بشخصية أكتبها إن لم تكن مجسمة كما لو أنني أراها بين السطور بلحمها ودمها تتحرك أمامي..!
ولعلي وفقت في أن تكون "اللحاف" رواية تشكيلية كما كنت أحلم، أو لعلي في نظر البعض بدوت كمن يحاول أن يتلذذ بطعم القهوة في كوب من الشاي».