الهواء النقي والإطلالة الدافئة على "دمشق القديمة" جعل "حي الصالحية" القبلة المفضلة للمهاجرين الذين أحبوا أن تكون "دمشق" أماً لأحفادهم؛ والاهتمام الواضح الذي أولاه الأمراء والسلاطين الذين تعاقبوا على "دمشق" لعمران هذا الحي وسكانه أدى إلى تسمية "حي الصالحية" باسم "دمشق الجديدة".

موقع "eSyria" التقى السيد "أحمد غنطوس" مختار "حي الصالحية – شيخ محيي الدين"، المختار "أبو عبدو" كما يُعرف في الحي، وعاد بنا إلى بدايات "حي الصالحية" بقوله: «بدأت "الصالحية" خارج "دمشق"، عن طريق الهجرات المتتابعة التي وفدت من جهات مختلفة، وسميت "دمشق الجديدة"، فكانت عبارة عن تجمعات متباعدة على "نهر يزيد"، فقام الأمراء والسلاطين زمن "الأيوبيين" و"المماليك" بالاهتمام ببنيان هذا الحي وشجعوا الناس على استيطانه، والسبب هو الاكتظاظ السكاني الذي أصاب مدينة "دمشق".

كان "عبود الكردي" طويلاً بشاربين عريضين، ويضع "الطربوش" على رأسه، ويحمل عكازاً غليظاً، يحفظ الكثير من الأمثال الشعبية، وله عدة جمل يرددها دائماً؛ أصبحت اليوم أمثالاً جارية على ألسنة الكثير من "أهل الحي"، ومن هذه الأمثال: «مع مين شفتك شبهتك

لذا فسكان هذا الحي متبايني المنشأ فتجد عدداً كبيراً من "أهل الصالحية" يعودون بجذورهم إلى الأمراء "الأيوبيين" الذين استقروا في "دمشق"، وتجد عائلات أخرى جاءت قديماً من بلدان "آسيا الوسطى"، "الأناضول"، "أوروبا الشرقية"، "بلاد الأندلس" و"المغرب العربي"، هذا بالإضافة إلى القبائل العربية الكثيرة التي استقرت زمن الحروب الصليبية، ولا تخلو الصالحية اليوم من أبناء أعرق العائلات الدمشقية التي وجدت في هذا الحي الجديد مكاناً يضاهي "دمشق القديمة" جمالاً وأصالة، واليوم تعد "الصالحية" أحد أهم الأحياء في "دمشق" ومن أكثرها حفاظاً على العادات، أما التباين القديم لأصول أبنائها فلم يعد موجوداً الآن».

المختار أحمد عنطوس

يعمل معظم أبناء الحي بالتجارة وأعمال تخديمية أخرى، فلا توجد مهنة أو حرفة تخصصوا بها دون غيرها، كما برز منه الكثير من العلماء الذين تصدروا منابر العلم والثقافة، ولا يمكن إحصاء عدد العلماء الذين أناروا الصالحية بعلمهم وأخلاقهم، ليجعلوا منها قبلة للعلم ومنارة للعلماء، "الشيخ محيي الدين بن عربي" من أعلام العلم والتصوف في العالم، "أندلسي" المولد و"دمشقي" المرقد، دفن في "الصالحية" وظل قبره مخفياً عن الناس، حتى القرن التاسع الهجري، حين بنى "السلطان سليم" مسجداً ضم قبره الذي يعتبر اليوم أحد أهم الأضرحة الدينية في "دمشق".

المختار "أحمد غنطوس" تحدث عن مكانة "الشيخ الأكبر"- كما يقال له في نفوس أهل "الصالحية"، بقوله:

المسحر "أبو خاطر فلفل"

«يمكنك معرفة مكانة "الشيخ محيي الدين" في نفوس "أهل الصالحية" من عدة أمور، لعل أوضحها كون الحي يسمى باسمه حتى اليوم، والمسجد الذي يضم قبره يعتبر من أهم الصروح الدينية في "دمشق"، ويقصده الزوار من كافة أنحاء العالم، والأمر الأهم أن كافة الطرق الصوفية الموجودة في دمشق والعالم تدين بالفضل للشيخ الأكبر، وتقام يومياً في المسجد حلقات للذكر والعبادة، وقد أمّ هذا المسجد وخطب فيه أهم الشخصيات الدينية في "دمشق"».

انعكست المعتقدات المحافظة لأهل "الصالحية" على لباسهم، "غنطوس" وصف لنا لباس "أهل الصالحية": «لا يختلف لباس أهل الصالحية عن لباس بقية أهالي أحياء "دمشق"، فالصفة الغالبة للنساء مثلاً هي "الملاية الطويلة" والتي ما نزال نراها اليوم وخصوصاً على الكبار بالعمر، أما الرجال فكانوا يهتمون كثيراً باللباس التقليدي "لأهل الشام"، ولا يستبدلونه بسهولة، فأذكر أن جّدي كان يلبس الشروال وفي إحدى المناسبات رافقته، وسألته أن يغير الشروال لكونه أصبح عادة قديمة، فغضب غضباً شديداً وسألني كيف أغير لباساً أخرج الفرنسي من بلادنا، "يقصد به لباس الثوار"، وبقي مدة أسبوع لا يكلمني.

آخر زكرتاوية الصالحية "عبود كردي"

وكان جدي على سبيل المثال يلبس "البزه والشروال"، ولا يخرج بهما إن لم يكن الشروال مطرزاً على طول جانبيه، ويصنع هذا "الشروال" من "الجوخ الانكليزي" الفاخر، وكان يذهب "بالطربوش" الذي يضعه على رأسه إلى "كوّى" -مكوجي- خاص».

"طبخة الدراويش" أو "شوربة الشيخ محيي الدين" من أقدم العادات التي حافظ "أهل الصالحية" على استمرارها؛ إذ يعود تحضير هذه "الشوربة" إلى خمسة قرون ماضية، واليوم مازالت تقدم فجر كل خميس في "التكية السليمية" التي بناها "السلطان سليم" عام

/924/هـ، مقابل "جامع الشيخ الأكبر" في "شارع المدارس"، لإطعام الطلاب الذين كانوا يدرسون في المدارس الدينية التي بنيت منذ "عهد الأيوبي"، والتي وصل عددها إلى

/360/ مدرسة، ضمت حينئذ طلاباً وفدوا من كافة أرجاء المعمورة.

وحدثنا المختارعن حرص "أهل الصالحية" على تناول هذه "الشوربة"، بقوله:

«يحرص الأهالي على تناول "شوربة الشيخ محيي الدين" كل أسبوع، وبالرغم من أنها تحمل لقب "طبخة الدارويش"، إلا أن الأهالي يوزعون الكمية التي يحصلون عليها فيما بينهم، فتجد أن الصحن الواحد يمر على أكثر من بيت ليصل أحياناً إلى عشرة بيوت، حرصاً منهم على "البركة" التي يعتقدون بها».

وتطرق أيضاً للتحدث عن "المسحر" فقال : هو رجلٌ ارتبط بشهر "رمضان"، وصوته الدافئ يكاد يختفي من ذاكرتنا الرمضانية، فلم يقتصر دوره على إيقاظ أهل الحي قبل "أذان الإمساك" فقط، ولكنه كان يسهم في إضفاء طابع من الخصوصية السمعية على هذا الشهر الفضيل.

وعاد المختار بذاكرته، وحدثنا عن "مسحر حي الصالحية" الذي كان يدعى "أبو خاطر فلفل":

«كنا نستيقظ فجراً على صوت المسحر "أبو خاطر"، ونسرع إلى النافذة لنشاهده قبل أن يختفي بين الأزقة الضيقة، وكنا نبكي إذا ذهب ولم نستقيظ على صوته، "أبو خاطر" كان طويل القامة، يرتدي شروالاً وبيده طبل صغير، ذو صوت جهور ولحن جميل لا يقارن إلا بأصوات نجوم الزمن الجميل، وكان في آخر الليالي من رمضان ينادي: «هون حط الطير وطار».

أيضاً عرفت "الفتوة والزكرتاوية" عند "أهل دمشق"، ورُويت عن شهامتهم وبطولاتهم الحكايا الكثيرة، ولكل حي فتوته ورجاله، يعرفون بلباسهم وألفاظهم المميزة، و"حي الصالحية" عجّ "بالفتيان والزكرتاوية"، وجعل لهم أهل الحي مكانة مميزة في الحياة الاجتماعية.

"عبود الكردي" من أشهر "زكرتاوية الصالحية"، عايشه المختار "غنطوس" في سنواته الأخيرة، وحدثنا عنه بقوله: «كان "عبود الكردي" طويلاً بشاربين عريضين، ويضع "الطربوش" على رأسه، ويحمل عكازاً غليظاً، يحفظ الكثير من الأمثال الشعبية، وله عدة جمل يرددها دائماً؛ أصبحت اليوم أمثالاً جارية على ألسنة الكثير من "أهل الحي"، ومن هذه الأمثال: «مع مين شفتك شبهتك»، وعلى قبره اليوم عدة جمل من تأليفه، وأذكر أنه عندما عاد من "الحج"، استقبله "رجال الصالحية" بشكل غير مسبوق، ولم يبق رجل يربي طيوراً إلا أحضرها وأطلقها أمام "عبود الكردي" تحية له.

"الكردي" توفي في ثمانينيات القرن الماضي ويعتبر من أواخر "زكرتاوية" "أهل دمشق"، والحقيقة أنه أعطاني في أحد الأيام "ليرة ورق"؛ ما زلت أحتفظ بها حتى اليوم، ويذكر عنه أنه دخل مرة أحد المنازل فاستقبله صبي بقميص بلا أكمام، فغضب "عبود" غضباً شديداً، وقام بضرب الفتى بالعصا التي يحملها، وقال له: انضب يا ولد؟ أذهب إلى الداخل. ويذكر عنه أيضاً أنه لا يسمح للأولاد بحضور المجالس التي يجلس بها».