شغفها بالكلمة والكتاب بدأ باكراً، وهو ما منحها هذه التجربة الطويلة والمتنوعة التي اختارت لها تنويعات (الأدب الوجيز)، فعُرفت في المشهد الثقافي السوري بغزارة نتاجها في مناخات: قصيدة النثر والقصائد القصيرة، كالومضة والشذرة والنانو والنماذج الأدبية المقتبسة عن الأدب الياباني كالهايكو والهايبون والتانغو وغيرها، وقد وسّع لها آفاق تلك الميادين عملها – وإن كان لفترةٍ وجيزة – في حقل الصحافة والإعلام، وكذلك اختصاصها في "علم النفس التربوي" الذي قدمت من خلاله أبحاثاً عدّة.
عمارة في مناخات "الأدب الوجيز"
هي الأديبة السورية هالا الشعّار ابنة السلمية المدينة الحالمة على مخدتي أطراف البادية والمدينة.. السلمية مدينة المثقفين السوريين الذين عُرفوا بثقافتهم العالية ومن مناخات إيديولوجية متنوعة.. ومن ثمّ كان الانخراط في الساحة الثقافية الدمشقية، حيث من خلالها استطاعت أن تبني مختبرها الثقافي الخاص بها، والذي كانت عمارته في مناخات (الأدب الوجيز)، وكان أن أنجزت في ميادينه الكثير من الهايكو والقصة القصيرة جداً، والكثير أيضاً من قصائد النثر..
منديل ممزق
دمعٌ
يعتلي الموجَ
كأنّه نواح
صرير باب التوتياء
بعد المذبحة
وفي مجموعتها “سلالة السرو” الصادرة عن دار الينابيع بدمشق؛ تدعوك الشعار منذ العتبة الأولى إلى التأمل الذي يتبعه وقفات طويلة للتأويل.. هذا العنوان الذي أول ما يوحي إليك، أو يتبادر إلى ذهن المتلقي مع مُفردة –السرو- التي تكتنز بمعجمٍ من الإحالات، والتي قد تتناقض في بعض الأحيان.. توضح الشعار في حديثها لمدونة وطن أن هذه الإحالات تودي أيضاً لمشاهد بصرية، كلُّ مشهدٍ يستدعي الآخر، تماماً كمن يرمي حصاةً في بركة ماءٍ، حيث تتوالد الدوائر دائرة إثر أخرى.. هنا أول اهتزازات وجه الماء، سيأتي بدائرة الخضرة، أو مشاهدها، مع كلّ ما يترافق معها من رقةٍ وخصب وتواضع، والتي بدورها ستحضر معها بساتين وحدائق وأسيجة حقول وغابات، وثاني الدوائر أو المشاهد ما يوحي بالرسوخ والثبات والتجذر والتمسك بالأرض، وثالث دوائر هذه العتبة العنوان؛ وهو السمو صوب الأعالي والتطلع ارتفاعاً، وإذا ما اكتفينا بهذه الدوائر الثلاث التي توحي بها مفردة واحدة من العنوان، وأضفنا إليها المفردة الأولى (سلالة) التي توحي هي الأخرى بقوم وعائلة ومكوّن إنساني، الأمر الذي يُمكّن من دخول بوابة المجموعة باطمئنان للتعرف إلى أفراد عائلتها، وإلى بيتها بكلّ ما يوحي ذلك من (غنى) الإحالات الذي حاولت الكاتبة أن تغوي به المتلقي في الدخول.
هدأت القذائف
آخرُ الفاريّنَ؛ كان غرابٌ، يتبعهُ غُرابٌ آخر.
لم استطع تحديدَ جنس أيهما في تلك الظروف،
وضمن هاتيك المسافة.
تساؤلات شاعرية حول الماضي والحاضر
في تجربة هالا الشعّار؛ يتحدث الناقد العراقي كريم عبد الله عن استخدامها: "الرمزية والاستعارة بشكلٍ مكثف، لإيصال معاناة وجودية ومجتمعية عميقة، وتجسد تساؤلات شاعرية حول الماضي والحاضر، ودئماً تعبّر عن الواقع المأساوي الذي تعيشه الشاعرة في سياق ظروف مأساوية.. الأسلوب في قصيدتها يتسمُ بالعمق، وينبضُ بالحركة الرمزية التي ترتبط بتصورات دينية وأساطير تاريخية وفكرية تتداخل مع الواقع المعاصر.". ويُضيف (عبد الله): القصيدة لدى (الشعّار) ملأى بالعواطف الجياشة والألم الذي يتسم بالصدق والحدة.. والشاعرة هنا لا تترك مجالًا للتجمّل في التعبير عن الواقع المأساوي، بل تستخدمُ لغةً مباشرة، وسلسة تعبّر عن معاناتها.. كما تُظهر التناقض بين الصور الجمالية والخيالية والواقع المرير، كما تعكس الصور الاستعارية حالة الشاعرة المعنوية والمكانية
"صفيرُ ريحٍ شرقيّة
وددتُ سؤالها
عن طفلةِ المخيّم"
في مجموعتها التي أشرنا إليها قبل قليل؛يضيف عبدالله: سيتعرفُ القارئ على بستانٍ تتنوّع فيه الأشجار ومن الأعمار كافة ذلك أنّ الشعار لم تكتفِ بجنسٍ إبداعي واحد، رغم أنها حددت جنس نصوصها على غلاف المجموعة بالـ (شعر).. غير أنّ النصوص لم تكتفِ بالشعر وحده، صحيحٌ أنّ فيها "شعرية" عالية، غير أنها، وعلى إيقاع هذه الشعرية، ستنوّع (الشعّار) بغير جنسٍ أدبي تنتقلُ بين خاطرةٍ حيناً وبين قصةٍ قصيرة جداً حيناً آخر، وطوراً نصوص هايكو، ومراتٍ كثيرة قصص شعرية، كما في النص التالي الذي يدخلُ حيزاً مختلطاً بين القصة القصيرة جداً والشعر
"حنينُ الأرض
أيحاولُ الغبارُ اللّحاقَ
بقافلةِ الغياب
عاصفةٌ غُبارية
في "سلالة السرو" متواليات تتناسلُ من ذات العنوان
غير أنّ أكثر ما يُلفت الانتباه في (سلالة السرو) تلك المتواليات التي تتناسلُ من ذات العنوان، والتي غالباً ما تتناول موضوعاً محدداً يكون شاغل تلك المتواليات، حيث تنوّع على ذات الهدف بصياغاتٍ جديدة في كلّ متوالية، كباحثٍ يُريد إشباع أطروحته دراسةً مهما أكثر من التفاصيل..
في هذه المتواليات التي تأخذ جلَّ النصوص، تُشاغلُ الشاعرة بياض الصفحة كفنانٍ تشكيلي في مزجه الألوان، ثم بضربات الريشة وانزياحات الألوان؛ تُشكّلّ التكاوين والخطوط مراعيةً توزع الظل والضوء والهواء، هي هكذا توزع متوالياتها على كامل البياض كحالةٍ شعرية مشدودة دائماً لذات العنوان خشية ضياعٍ آو تيه.. متواليات يُمكن للمتلقي أن يقرأها معاً دفعة واحدة، أو قراءتها فُرادى من دون أن يُضحّي بأي جماليات.. وفي بعض الأحيان تفاجئنا (الشعار) بتراكيب بين مُفرداتٍ اعتادت أن تكون مُتناقضة، أو قلما تجتمعُ معاً، حيث تدخلها مختبرها، وفي مسيرة الانزياحات تخرجها بهذه الكيميائية التي تُعطي للتراكيب سحرها كما في مثل هذا (الهايكو)؛
صامتان
بانتظار أن ينفضّ سوق الأحد
دوريٌّ ومُشرّد.
ومن الملامح التي يُمكن للمتلقي أن يتلمسها في نصوص هالا الشعّار: الحكائية، أو القصصية التي تسمُ أغلب نصوص المجموعة، الأمر الذي يبعد النص عن الجمود والإنشائية، ، كما يُمكن أن نتلمس شيئاً من "الحذف"، حيث تترك شيئاً من البياض ليكمله قارئٌ مُتابع يعرف تتمة النص، ويقترحُ له خواتيمه، وهناك المشهدية التي برعت فيها، أو ما أطلق عليه منذ قديم الشعر"الرسم بالكلمات"، ولا سيما في نصوص الهايكو، ذلك الرسم الذي يُغني عن مئات الكلمات لما توحي المشاهد من حالةٍ بصرية تخييلية تزيد من سعة ضيق العبارة.
"عيناه،
أصغر من ثقب حذائه
عتّال كراج الست."
وتضيف الشعار في سردها: بكلِّ الأحوال كنا قد تحدثنا عن (سلالة)، والسلالة هنا لا تعني التشابه التام في "سروها"، وإنما ثمة أنواعٌ كثيرة لهذا (السرو) سواء بالطول أو اليناعة أو بالخضرة وحتى بالتفرع والارتفاع، ومن هنا جاءت بعض النصوص شديدة التكثيف، حتى إنها تكاد تكتفي بمفردتين، وأخرى كانت تطول لأكثر من صفحتين.
وتتابع حديثها: صحيحٌ أنه رغم تنوع إيقاعات النصوص ونواسانها بين عدة أنواعٍ أدبية، غير أن ثمة نصاً بدا وكأنه خارج السرب، أو ربما يُحاول اللحاق به، وهو في كلِّ الأحوال مُغاير لكلِّ ما تقدم عنه وما تأخّر، جاء أقرب إلى مرثية طويلة تنوسُ على الإيقاع الطويل كرواية، هو "مُرافعة" كما أطلقت عليه، مُرافعة أمام قاضٍ لا ملامح له، نص يتوسل السرد ليحكي قصة حياة تلوذ بالتشرنق والصمت
"الحربُ هناك
تتربصُ عاشقين علّقا صورتهما على جدار.
أبقت الحربُ من الصورة مسماراً وأثراً فاتحاً."