هي ليست (روما)، ومع ذلك كلّ الدروب توصل إليها.. فمن صافيتا باتجاه الجنوب الغربي مروراً ببيت الشيخ يونس، أو من طرطوس، باتجاه الجنوب الشرقي مروراً بالكثير من القرى، ومن حمص، فأغلب المفارق بعد مفرق صافيتا – طريق حمص طرطوس- يمكن أن توصلك إلى (وجه القمر) أو إلى ال(زبرقان)، حيث تقعُ زبرقان إلى الجنوب الغربي من مدينة صافيتا، وبمسافة نحو ال(14) كيلومتراً.. تتمدد القرية على قمة جبل (الظهر الغربي) وسفوحه، متخذة الهلال شكلاً أو قمراً لم يكتمل..!

وجه القمر وقمم الجبال

رغم هذا الشكل الهلالي للقرية، فإن معاني اسمها لم تأت من هنا، فالاسم في السريانية القديمة، يعني الوجه خفيف اللحية، بينما يعني في العربية اسماً لوجه القمر، هذه الضيعة القمرية تحرسها غابات البلوط والسنديان من جهاتها المختلفة، ونبعُ عينٍ يطلق أسراب العصافير في كلِّ المناحي.. كانت جراره ذات حين تسافر في كلِّ الجهات، وعند نبع العين ولدت عشرات الحكايا والأساطير، وهنا أيضاً ثمة خضرة مستمرة على مدى كل الفصول..

هنا.. حيث يجمّل هذا الشكل غاباتٌ ثلاث من البلوط، قديمة قدم مزارات الضيعة العتيقة المنتشرة حولها، وفي السفح حرشُ السنديان العتيق، الذي طالما أدفأ الأهالي في برد الشتاء، وفي أسفل سفح الجبل، يتلوى نهر الابرش، أبو الحكايا و طواحين الماء، وعلى الضفتين بساتين الليمون والزيتون وحقول الفول السوداني والأنفاق البلاستيكية..

الطواحين القديمة من أهم أثار القرية

وعلى قمم الجبال تتربعُ مقامات الأولياء الصالحين. يحكي لنا آرام بشير باحث وناقد فني من أبناء القرية، حيث لكلِّ وليٍّ حكاية، ومأثرة، وكذلك موقعة في الذود عن حياض الوطن.. أجمل ما في بعض تلك الأضرحة، أن أكثر من طائفة تؤمن بها، فالمقام الديني ذاته يزوره المسلمون أيام الجمع، كما يزوره المسيحيون أيام الآحاد، ولكم في مقام الشيخ يوسف الرياحي، مثال الإيمان الحق، فهذا المزار هو ذاته الدير مار إلياس الريح. هذا الدير العتيق الذي مرّ من أمامه عشرات القوم، هنا حيث الأطلال تحكي تاريخاً وأساطير وأجواء روحانية مفعمة بالبخور والمضاءة بالشموع.

مشهد ريفي

زبرقان.. مشهدٌ ريفي قلّ نظيره – يُضيف بشير في حديثه لمدونة وطن - بيوت تتعمشق على السفوح، وأخرى سبقتها إلى القمة، هذا (القرميد) علا بعض سطوحها، كنجمة تتوهج من بعيد، وسط هذا الأخضر الممتد، بينما أراضيها الزراعية المروية، تمتد مستريحة في سهل عكار- السوري اللبناني- أما حواكير الزيتون فتأبى النزول عن السفوح، وقد دُجنت من زمن بعيد.

المعمر محمد الأحمد والباحث أرام بشير

يُمكن تقسيم زبرقان العقارية حسب نشاطها الاجتماعي والاقتصادي إلى ثلاث مناطق؛ المنطقة الأولى: المنطقة السكنية والتي هي حصراً ضمن حدود المخطط التنظيمي العمراني.. كانت في السابق تتشكّل من حارتين، الحارة التحتانية وتأخذ سفح الجبل، وتعلوها الحارة الفوقانية التي تستريح على القمة.. غير أن التوسع العمراني أخذ كل الحيز الذي كان مشاعاً في السابق بين الحارتين وأمست القرية تأخذ كامل السفح والقمة ووصلت للقرى المجاورة: تركب، المسقس، والمويسة.. والتي تُشكل بمجموعها ما يُقارب من ال(سبع) قرية ومزرعة تتبع لبلدية واحدة باسم قرى (الضهر الغربي)..

نهر الأبرش وطواحين الماء

يُحيط بالمنطقة السكنية ولمسافة ال(300) متر حرم المخطط التنظيمي الذي حصر البناء داخله، وفيما بعد تأتي السفوح مدرجات وحواكير تزهى بالزيتون والتين والعنب والمزروعات الشتوية التي لا تحتاج للري، أو هي أراضي البعل التي تكتفي بما يجود لها الشتاء من مطر..

منظر عام للقرية

وعند أقدام الجبل يتلوى نهر الأبرش في سهل عكّار، يزهو ببحيرته الواسعة المحاطة بالمقاهي والمقاصف، وبما توفره للمجتمع المحلي من صيد السمك والسياحة، حيث يروي سد الأبرش الي يحجز البحيرة خلفه ما مقداره عشرة ألاف هكتار من الأراضي الزراعية.. ويذكر لنا السيّد (محمد الأحمد) أحد أقدم المزارعين في القرية في حديثه لمدونة وطن : تنتشر أراضي قرية زبرقان الزراعية لمسافات بعيدة في السهل حيث تتصل بأراضي وعقارات قريتي (بحوزي والصفصافة) السهليتين.. وكثيراً ما اشتهرت تلك الحقول بزراعة الحمضيات، على أنواعها، ومؤخراً نجحت فيها الزراعات الإستوائية من :"الأفوكاتو، الجوافة، التين المصري، القشدة، بباي، الموز.." وغير ذلك.. هذا بالإضافة لعشرات الهكتارات التي تمّت تغطيتها بالبيوت البلاستيكية.. وكانت هذه الحقول قبل ذلك خضراء بالزراعات الحقلية من: خضار بأنواعها، والفول السوداني (الفستق) والذورى.. وغيرها.

ويُضيف (الأحمد): لعلّ أشهر أوابد قرية زبرقان؛ كانت الطواحين القديمة، والتي لا تزال شاهدة عليها إلى اليوم (طاحونة الصف والعريمة) وهي توثق رحلة رغيف الخبز، وهذه الطواحين امتداد لعشرات الطواحين الأخرى على ضفتي نهر الأبرش من منبعه وحتى مصبه.. كانت في الزمن القديم تُشكّل مجتمعاً اقتصادياً على ضفاف النهر ولا سيما بعد مواسم الحصاد، حيث تأخذ عملية طحن الحبوب من قمحٍ وشعير وغيرها كلّ شهور الصيف وبعضاً من شهور الشتاء..

وأهمية هذه الطواحين لا تكمن في صنع الطحين لإنتاج الخُبز وحسب، رغم جلال المهمة، بل في المجتمعات الإنسانية التي كونتّها أيضاً من مكانها القصي على الضفاف، وكذلك الحالة الجمالية كتحفة معمارية وتراثٍ يغسل قدميه صباح مساء بمياه النهر.

ثمة دراسة ربما الوحيدة اليوم، وإن بدت ناقصة كثيراً، ناقصة لجهة الشمولية، فهي لم تأخذ بالدراسة سوى الطواحين على ثلاثة أنهارٍ فقط، وناقصة من حيث الدارسة نفسها، التي اكتفت بالتعداد والإحصاء، ذلك كان عمل مديرية آثار طرطوس.

اللفتة الأولى نحو التراث المهجور

بالتنسيق مع المديرية العامة للآثار والمتاحف المتمثلة بفريق عمل مكوّن من رئيس دائرة آثار طرطوس المهندس مروان حسن قبل ما يقارب من (15) سنة وعدد من الباحثين، كانت مهمة الفريق توثيق وتسجيل الطواحين المائية القديمة والمواقع المرتبطة بها على أنهار (الغمقة، الأبرش، والعروس) .‏

لكن أهميتها تبقى أنها اللفتة الأولى لهذا التراث المهجور على ضفاف الأنهار، رغم أنه بقي مهجوراً بعد ذلك الإحصاء أيضاً، والذي تمّ خلاله تحديد، وإحصاء نحو (68) طاحونة مائية، وتم رفع بعضها معمارياً، وتوثيقه طبوغرافياً وفوتوغرافياً. حيث يُجاور الأراضي الزراعية ل(زبرقان) ثلاث طواحين من هذه الطواحين، وهي: الصف، والشبخ حسن، والعريمة.

وأخيراً تتميز زبرقان بالكثير من (المقامات) الدينية المنتشرة حولها منها: الشيخ أبو حسن ديب، الشيخ أبو حمدان، الشيخ محمد الشهيد، والشيخ عبدالله النهري.. وكل مقام تظلله غابة من أشجار معمرة من البلوط والسنديان..

ونختم مع الشعر المحكي عن زبرقان:

يا زبرقان الحلا فيكي مكملو

طلوع القمر عاسهول هالفيها الحلو

رشرش على دروبِك حلا

وصرتي على قلبي الغلا

ودروبِك عليها مشى العشاق

وشو رشرشوا أشواق

والبعد عنّك صعب مابينطاق

بدّي اللي عنك غاب جرب أسألو

غيابو رماه ب"آه" تايرجع لحضنِك

عم يرتجي ومشتاق...