لم يتوقف تل "الحسكة" الأثري عن البوح بأسراره الدفينة، فتحت كل سبرٍ من أسباره تغفو قصصٌ عاشها أناس لم يتركوا خلفهم إلا الأثر.

موقع eHasakeh زار التل والتقى مدير دائرة الآثار الدكتور "عبد المسيح بغدو" فقال: «يتربع تل "الحسكة" على مساحة 2.5 هكتار ترتفع عن سطح البحر 329 متراً و25 سم، وقد تم إجراء سبر توصلنا من خلاله إلى ثلاث مراحل ارتبطت فيها عناصر معمارية، وجاءت فكرة العمل في تل "الحسكة" من عام 1996 وذلك بناءً على معلوماتٍ وجدت في رقيم مسماري، تم الكشف عنه في "تل الشيخ حمد"، ويقول الرقيم إن الملك الآشوري "كيكوزي نورتا الأول"، في العصر الآشوري الوسيط والحديث بين عامي 1200 حتى 800 قبل الميلاد، قد جاء عبر الحملات العسكرية من منطقة "آشور"، حتى وصل إلى منطقة "تائيدو" وهي موقع "تل حمدي" شمال "تل براك" بـ 20 كيلو متراً، حيث تابعوا المسير لمدة يومين باتجاه "مكريزيا"، والتي تم التعرف عليه من قبل البعثة الأثرية السويسرية برئاسة الباحث "ماركس كويلدا"، وهو المكان الذي يلتقي فيه نهر "الخابور" مع "نهر "الجغجغ" ثم استراح هناك، ويوجد بين "تل الحسكة" وملتقى نهر الخابور بالجغجغ حوالي 1700 متر».

تخرجت في الجامعة وقد تعلمت الكثير من الأمور، لكن العمل على أرض الواقع يختلف كثيراً، أنا اليوم أعمل في موقع "الحسكة" الأثري بترقيم اللقى، كما عملت في المربعات الأثرية، وأنا في طور التعلّم"

يتابع "بغدو": «يوجد العديد من المناطق الأثرية في محافظة "الحسكة" منها "تل مجرجع، تل غرة، تل غويران، تل الحسكة، تل أبو بكر وغيرها"، وبحسب العلماء "ديفد أولس" و"هارد منغولي" فقد رجحوا أنه من الممكن أن يكون "تل بيزاري" هو تل "مكريزي" أو "تل الحسكة"، وقد سار الملك الآشوري باتجاه "دور كاتليمو" المعروف بـ "تل الشيخ حمد"، الواقع على حدود "الحسكة- دير الزور" والتي تعمل فيها حالياً بعثة ألمانية، ونتيجة الحفريات القديمة التي أجريت في منطقة "الحسكة" القديمة، ظهر لدينا بعض السويات التي تشير إلى وجود شيء ما، لهذا قمنا بنقل ملكية "تل الحسكة" الذي كانت تتموضع عليه ثكنة "سعد بن أبي وقاص" العسكرية، من ملاك وزارة الدفاع إلى ملكية وزارة الثقافة عام 2002، وبعد نقل الملكية بدأنا بتسوير الموقع لإظهاره بالشكل اللائق، وترميم الأبنية الفرنسية الموجودة فيه، ثم قمنا بإجراء حفريات في التل للكشف عن ماهيته، كما قمنا بترميم الأبنية الفرنسية لعدة أهداف، منها استخدامها كمركز بحث علمي أو معهد آثار أو محلات لصناعات تقليدية وشعبية».

قدس الأقداس

يضيف "بغدو": «في عام 2007 تسلمنا الموقع وفي العام 2008 حصلنا على الموافقة لبعثة أثرية وطنية برئاستي، بدأنا على أثر ذلك العمل في التنقيب في الموقع مباشرةً، وقد أجري بحث سابق للموقع، تبين من خلاله وجود سويات تعود للألف الثاني والثالث والرابع قبل الميلاد، إلا أننا بدأنا العمل في الساحة مباشرةً، ونتيجة كل هذه الأعمال تم اكتشاف كاتدرائية، لكن قبل بدئنا بالحفر أي أثناء تشييد الأبنية الفرنسية، ظهرت أساسات لجدران مملوكية وبعض الأجزاء من العمارة، وتحت هذه الأسبار وجدت الكاتدرائية، التي تتربع على مساحة بطول 31 متراً باتجاه شرق غرب و 18 متراً شمال جنوب، وتتألف من قسمين الأول صحن الكاتدرائية بطول 21 متراً والقسم الثاني هو قدس الأقداس، ويتألف صحن الكاتدرائية من ثلاثة أروقة، رواق شمالي ورواق أوسط ورواق جنوبي، يفصل بين الرواق الشمالي والأوسط قاعدة لأربعة أعمدة، وكذلك الأمر بين الأوسط والجنوبي، وعلى الجدار الغربي قاعدة لعمودين، وفي واجهة قدس القداس قواعد لعمودين آخرين، وقد شُيد البناء الخارجي من حجر بازلتي مغموس بالجص، وصل ارتفاعه في أحد الأجزاء إلى 210 سم، كما تم التعرف على أساس يرتفع إلى أكثر من 40 سم من الجهتين الغربية والشمالية، كما أن أرضيات الكاتدرائية مصنوعة من الطين المشوي بالنار، وقد تم شي الأرضي دون معايير محدد، والدليل على ذلك هو الاختلاف في ألوان البلاطات، ويقدر عدد الناس الذين كانوا يجلسون في الكاتدرائية ما بين 650 – 700 شخص».

يضيف مدير الآثار: «أحد العمودين المتهدمين وصل ارتفاعه مع القاعدة إلى قرابة 5 أمتار، وقد مرت هذه الكاتدرائية في حياتها بثلاث مراحل، كانت البداية في الفترة المسيحية المبكرة أي في القرن الرابع أو الخامس الميلادي، واستمرت حتى القرن الحادي عشر الميلادي، أي إنها عاصرت الفترة الأموية والعباسية وهذا يدلل على أزلية التعايش بين الأديان، ومازلنا ندرس سبب انهيار هذه الكاتدرائية، فلا ندري هل هو زلزال أم إنه خطأ معماري، وفي المرحلة المتأخرة يوجد عنصر معماري لم يتم الكشف عنه سابقاً، وهو تطور عامل "البيما" وهي عبارة عن مكان لوقوف عدة أشخاص للقيام بالتراتيل، إلا أن الشكل هنا يدعى "الأمغون"، ويمتد منه طريق بطول يزيد على سبعة أمتار يسمى "الشخافون"، يسلكه رجل الدين ويقوم بإلقاء الموعظة، ويوجد مدخلان في الجهة الجنوبية والشمالية يعودان للفترة الأولى، وفي المرحلة المتقدمة تم إغلاق المدخل الواقع في الجهة الجنوبية وتصغير المدخل الشمالي، وتم فتح مدخلين صغيرين إلى الشمال منهما يرتفعان أربع درجات، وقد أقمنا من الجهة الغربية مقطعاً شاهدنا فيه ارتفاع جدران حتى 2.5 متر، وبعرض 10 أمتار على نفس السوية الآشورية، وما زال العمل جارياً حتى نصل إلى سوية العصر الآشوري».

معصرة الزيتون

يتابع "بغدو": «القسم الثاني هو قدس الأقداس ويتألف من ثلاث غرف، الأولى هي الهيكل أو بيت القدس والثانية هي المعمودية، والثالثة هي السكرستية وهي مكان لباس رجال الدين، وقد وجد في قدس الأقداس أربعة أعمدة لوضع المائدة المقدسة، وفي الجهة الغربية تم الكشف عن معصرة لتحويل العنب إلى نبيذ، ومعمل لتحويل العنب إلى نبيذ بالقرب من غرفة السكرستية، مؤلف من قسمين علوي وسفلي، القسم العلوي بطول 220 متراً وعرض 220 متراً، يحتوي على قناة تنزل إلى القسم السفلي، وفي القطاع الجنوبي وخلال عمليات التنقيب في أعوام 2008 – 2009 – 2010 – 2011، بحثنا في الأبنية المحيطة بالساحة والمدخل الرئيسي بالجهة الغربية، المؤدية إلى قاعة قد تكون للاستقبال أو مركزاً قد يكون للخوارنة، لممارسة بعض الطقوس الدينية، كما تم الكشف في الزاوية الجنوبية الغربية عن بئر للماء واكتشاف ختم للحبر "البرشان"، إضافةً إلى كرسي الاعتراف وصندوق الذخائر الذي وجد منه ثلاثة أجزاء، وجزء من الغطاء الذي يوضع فوقه لتغطية رفات شخص يقدس فيما بعد ويتبارك به المؤمنون، وفي الجهة الشمالية تم اكتشاف قبر لرجل دين تم تحليله بالكربون المشع، تبين أنه يعود إلى ما بين القرن السابع والتاسع الميلادي، وكشفت النتائج أنه رجل دين معذب تم نشر يديه، تبين ذلك من خلال الدراسة الأنثروبيولوجية التي قامت بها الدكتورة "رانيا العلي"».

ولفت "بغدو" إلى أن «ما تم التعرف عليه في "تل الحسكة"، يؤكد أننا أمام كاتدرائية مشرقية، حيث ذكر في بعض المراجع أن هناك عدداً من الكاتدرائيات لم يتم التعرف عليها، ويمكن أن تكون هذه الموجودة في "تل الحسكة" هي واحدة منهم، لكننا تعرفنا من خلال الأعمال على سوية تعود للعصر الآشوري الحديث، فالأبحاث تقول أن "مكروز" يعود للفترة الرومانية البيزنطية، وفي حال تم إثبات أن الموقع مكروزي، فهذا يعني أن بحثنا عن مدينة أثمر عنه إيجاد مدينتين، والنتيجة المهمة في هذا البحث هو تاريخ مدينة "الحسكة"، ودحض ما يشاع أن "الحسكة" سكنت في القرن التاسع عشر أو العشرين، فالعناصر المعمارية الموجودة من ثكنة عثمانية وفرنسية وسورية، وأساسات سور مملوكية والسور من الخارج قد يكون ينتمي إلى الحقبة العثمانية، والعمارة الأيوبية وبناء الكاتدرائية امتد في الفترة البيزنطية ثم الإسلامية والأموية والعباسية، ومن ثم سورية رومانية، كل هذا الذي ذكر يأخذنا للقول إن الموقع يمتد حتى القرن الثاني الميلادي، وهذا يؤكد استمرار الاستقرار في مدينة "الحسكة"، على الرغم من اكتشاف فترة لانقطاع الحياة فيها دامت ما يقارب ألف عام، إلا أن مدينة "الحسكة"، شهدت حياة الإنسان القديم».

اثناء عملية التنقيب

وبيّن خريج كلية الآثار "جورج حنا" «أن المحافظة تتربع على كنوز كثيرة ودفينة من الآثار واللقى الأثرية، مشيراً إلى أن العمل في مواقع التنقيب يعطي للباحث أو للطالب معلومات كبيرة جداً، ويعزز المعلومات النظرية التي تعلّمها في الجامعة بمعلومات مادية وحقيقية».

وقالت "مارين خطاب" خريجة آثار ومتاحف: «تخرجت في الجامعة وقد تعلمت الكثير من الأمور، لكن العمل على أرض الواقع يختلف كثيراً، أنا اليوم أعمل في موقع "الحسكة" الأثري بترقيم اللقى، كما عملت في المربعات الأثرية، وأنا في طور التعلّم"».