كانت منطقة الجامع الأموي بـ "حلب" كافية لتجعل من الحاج "يحيى مكي" أشهر ممن امتهنوا صيانة الساعات في منتصف أربعينيات القرن المنصرم.
تلك المهنة بدأت مع انتشار الساعات ومع تطور الزمن أخذت أشكالاً عديدة ومتطورة. موقع eAleppo التقى السيد "عمر مكي" ابن الحاج "يحيى" الذي عاد بذكرياته إلى الوراء وحدثنا عن بداية مشوار والده في تلك المهنة فيقول: «تعلم والدي وعمل في مهنة الصيانة بمنطقة الجامع الأموي بـ "حلب" عند "محمد سريّو" ولمّا يتجاوز عمره السادسة عشرة، حيث بقي في عمله فريداً في تلك المنطقة لكونها قد اختصت ببيع الاحتياجات النسائية وظل يعمل في ذلك المحل ولمدة ثلاث سنوات إلى أن قرّر مغادرته عندما اتفق مع إخوته على افتتاح محل جديد في منطقة شارع "القوتلي" وذلك في عام 1950».
لقد أتقن المهنة عند أفضل الفنيين في صيانة الساعات، وبقي مؤتمناً على تلك المهنة من خلال إتقانه لعمله وهذا يظهر جلياً من خلال تعامل الزبائن معه وخصوصاً حينما كانوا يأتون من المحافظات الأخرى ليسألوا عنه لكونه قد تمتع بشهرة واسعة في اصلاح الساعات القديمة
وأضاف "مكي": «كانت "تركيا" تشكل المحطة الهامة في عمله التجاري إلى جانب صيانته للساعات الجدارية والجيبية والمنبهات والقليل من ساعات الربط اليدوية لقلة انتشارها، حيث بلغ عدد الذين عملوا في تلك المنطقة خمسة محال تقريباً، وكان هناك العديد من العائلات التي عملت في تلك المهنة من بينهم "خياطة"، "عجمي"، "مسوتي"، وبعد مضي عشر سنوات غادر والدي شارع "القوتلي" ليستقر بعدها في "باب الفرج" ويكون أول من عمل بصيانة الساعات في تلك المنطقة واستمر فيها حتى وفاته عام 2005».
انتشار الساعات
بدأ التوقيت في مدينة "حلب" ينحى مجرى آخر عن طريق الساعات الجدارية وعن تلك الفترة قال الابن "مكي": «في بداية الستينيات كانت الساعات الجدارية تمتلكها الطبقات الغنية نظراً لارتفاع ثمنها بسبب جودة صناعتها وفي منتصف الستينيات انتشرت ساعات الربط اليدوية واستمرت إلى السبعينيات لتأتي بعدها الساعات الأوتوماتيكية التي تعتمد على حركة اليد واستمرت حتى التسعينيات ومنها انتشرت الساعات التي تعتمد على البطارية حتى رأينا في عصرنا الحالي الساعات الرقمية الإلكترونية».
خصوصية الساعات الجدارية في أيام رمضان
«كانت الساعات الجدارية تتمتع بنكهة مختلفة تضفي على جدار المنزل خصوصية لكونها تمتد من مترين إلى مترين ونصف وبعرض 60 ـ 70 سم، وكانت واجهتها البلورية تضفي على المكان جمالية خاصة، ناهيك عن صوتها الذي يلعب دوراً كبيراً في معرفة الوقت، حيث كانت وفي بداية صناعة الساعات الجدارية تعطي أربع دقات مسموعة عند الربع وثمانية دقات عن منتصف الساعة واثنتا عشرة دقة عند ثلاث أرباع الساعة وستة عشر دقة عند تمام الساعة لتأتي بعدها عدد دقات الساعة التي تشير إليها وكانت العملية تعتمد على قيام المضارب بالضرب على الأسياخ النحاسية الموجودة داخل الساعة الجدارية، وفيما بعد اكتفت الساعات الجدارية الأحدث بإصدار الأصوات عند منتصف الساعة وتمامها، ومن أشهر الدول التي كانت تعمل على تصنيع تلك الساعات "ألمانيا"، "فرنسا"، "بريطانيا".
وفي شهر رمضان كان يشكل مقتني الساعات ملاذاً لأهالي الحارة عندما يرسلون أبناءهم لمعرفة الوقت المتبقي لإقامة أذان المغرب لتجهيز طعام الإفطار، وأما بالنسبة لساعات الجيب فكانت ترافق اللباس العربي المعروف بالقمباز وبالشال الأحمر المرافق للحذاء الأحمر في المناسبات كالأفراح والسهرات والأعراس وخصوصاً عندما تظهر خرزة العقيق على خيط الحرير الذي يحمل الساعة وقبل استبداله بالسلسلة المعدنية».
الأدوات المستخدمة في صيانة الساعات
وتابع "مكي" قائلاً: «لم تختلف أدوات الصيانة كثيراً فهي بقيت على حالها كـ "الملقط" ويسمى "جفت" و"مفك البراغي" و"البنزين" للتنظيف و"الزيت" وأقلام "الظمبا" المصنوعة من معدن الفولاذ التي تستخدم للأشياء الدقيقة، وحالياً دخلت أدوات حديثة كـ "الكاوي" من أجل عمليات اللحام والآفومتر لقياس العناصر الإلكترونية التي دخلت في الساعات الإلكترونية الحديثة».
أذواق أهالي "حلب" في اقتناء ساعاتهم
وتابع "مكي": «حالياً يرغب الشباب بالعودة إلى تراثهم من خلال شراء الساعات التي توحي بالقدم وخصوصاً من فئة العقارب ويفضلونها أكثر من الفئات الإلكترونية، وفي منازلهم فإنهم يرغبون بأن تكون ألوان الساعة قريبة من لون أثاث الغرفة التي يضعونها وحتى في المطبخ فإنهم يفضلون الساعات التي تكون على شكل فاكهة كالبرتقال أو الليمون وما شابه ذلك».
اختلاف الماضي مع الحاضر وعوامل اندثار المهنة
«كانت الساعات قديماً مقتصرة على ساعات الجيب ثم أتت ساعات الربط اليدوية ومع انتشار العلم وضرورات الحياة أصبحت الساعة منتشرة وبكثرة وخصوصاً في البضائع الصينية الرخيصة الثمن، الأمر الذي أدى إلى عزوف الكثير من الناس عن صيانة الساعة وتفضيلهم لشراء الجديد عوضاً عنها».
وختم قائلاً: «فلقد بدأت بالعمل في محل والدي منذ 40 عاماً وسوف نشهد في الأيام القادمة اندثار تلك المهنة والإبقاء على بيع الساعات الثمينة نظراً لتوافر أجهزة المحمول والتي شملت على العديد من المزايا كالتوقيت والمنبه وغيرها الأمر الذي يؤدي مستقبلاً إلى انصراف الناس عن الاهتمام باقتناء الساعات إلا من أجل التباهي فقط».
الصحفي "سفر هنداوي" ممن عاصروا الحاج "يحيى مكي" يقول: «لقد أتقن المهنة عند أفضل الفنيين في صيانة الساعات، وبقي مؤتمناً على تلك المهنة من خلال إتقانه لعمله وهذا يظهر جلياً من خلال تعامل الزبائن معه وخصوصاً حينما كانوا يأتون من المحافظات الأخرى ليسألوا عنه لكونه قد تمتع بشهرة واسعة في اصلاح الساعات القديمة».
وأضاف "هنداوي" «إن الحاج "مكي" كان يراعي وضع الفقراء في أجور التصليح وكنت ألمحه في العديد من المرات كيف كان يأتي إلى محله مبكراً ولا أنسى أبداً حينما خلصني من مشكلة تقديم الوقت التي كنت أعاني منها دائماً في ساعتي ناهيك عما سمعته من عدد من الأشخاص عن حسن تعامله مع الزبائن ولطف كلامه وأمانته في عمله وفي النهاية قد توفاه الله ولم يبق من ذكراه إلا السمعة الطيبة».
