لم تكن فرحة السابع عشر من نيسان عام /1946/ فرحة عابرة مرت مرور الكرام على محافظة "طرطوس"، وإنما كان لها وقع خاص وطقوس خاصة مارسها الأهالي حينها وحافظوا عليها كإرث وطني للأبناء من بعدهم وتناقلوها عبر الأجيال المتلاحقة لتصبح في يومنا هذا عرس وطنياً يحتفل به الجميع.
فالجد "محمد علي نده" مواليد /1923/ من قرية "حمام واصل" التابعة لناحية "القدموس" تحدث لموقع eSyria بتاريخ "14/4/2011" عن فرحة تلك اللحظة التي سمع فيها نبأ جلال آخر جندي فرنسي عن تراب الوطن، حيث قال: «عند إعلان رحيل آخر جندي فرنسي عن التراب السوري الطاهر، قال الجميع لقد أجلي الفرنسيون من بلادنا فليكن هذا عيد وطني نستذكره كل عام، وتتناقله الأجيال من بعدنا وليكن عيد للجلاء يحتفل فيه الصغير قبل الكبير والمرأة قبل الرجل والكهل قبل الشاب، ولتعلو الزغاريد والأهازيج والهتافات المنادية بالحرية للجميع، ولتكن بداية مرحلة إنسانية جديدة للشعب السوري، وكعادتنا نحن الساحليون تترافق احتفالاتنا بصناعة الأطعمة المختلفة، لأنها الأقرب إلى الجميع والأحب، إضافة إلى تجهيز حلقات الدبكة على وقع قرع الطبول».
في عيد الجلاء قمنا بدعوة كل من يعرف طريقة العزف على الزمر، وطريقة طرب الطبل لعقد حلقات الدبكة الشعبية التي استمرت ثلاثة أيام بلياليها
أما الجدة "سنا واصل" فقد واكبت الفترة ذاتها، الفترة التي رافقت خروج الاحتلال الفرنسي من البلاد، وقُرر حينها إعلان "عيد الجلاء"، وعنها تقول: «بما أن فترة دخول القوات الفرنسية واستغلالها لخيرات البلاد واستعباد السكان فيها كانت فترة صعبة، كانت مرحلة خروج هذه القوات وجلائها عن تراب الوطن هي الأعظم والأكثر تقديراً بين جميع أفراد الشعب السوري، لذلك نالت هذه المرحلة الزمنية منا كنساء كل الاهتمام، فما إن سمعنا خبر الجلاء حتى بادرنا في القرية كبقية القرى المجاورة إلى تجهيز الولائم بمختلف أطعمتها للثوار والأهالي الذين ساندوا الثوار، وطبعاً هنا نقصد الجميع، لان إحساس المسؤولية تجاه الوطن جعل من الجميع ثوارا، فقسم منا ذهب لجمع الحطب وقسم آخر بدأ بتقطيع وتجهيز الذبائح، والجماعة الأخيرة أوكلت إليها عملية تجهيز المقادير لوجبة القمحية ووجبة البرغل بحمص ومقادير صناعة خبز التنور».
وتتابع: «لم تكترث النساء للتعب الذي تجلبه صناعة هذه الأكلات، لأنهن على يقين بأن المناسبة تستحق الأكثر، وهذا التعب ليس أثمن من الأرواح التي استشهدت للوصول إلى هذه اللحظة، لحظة إعلان الاستقلال».
إذا الفرحة عارمة والعيد يستحق تقديم جميع الوسائل والسبل لإدخال الفرحة لقلوب الجميع، وهنا يقول الأستاذ "إبراهيم علي نده": «إن الحزن والمآسي التي علقت بأذهان الأطفال من جراء القتل والاضطهاد والاستغلال الذي لحق بمجتمعهم، كان الأهم بالنسبة للجميع لإزالته ورسم صورة أكثر إشراقاً في عيونهم، لذلك أتذكر أنه نصبت المراجيح والقلابات الصغيرة للأطفال في ساحة القرية التي كنا ومازلنا نسميها ساحة "بيت نده"، ليتم رسم مشروع أطفال أكثر سعادة، وأقدر على حمل رسالة هذه السعادة للأجيال من بعدهم في ذكرى أخذت أرواح الكثيرين للوصول إليها».
ويتابع: «لم تكن المراجيح اللعبة الوحيدة التي مارسناها في ذلك اليوم، وإنما لعبنا بلعبة "طقش البيض"، وهي لعبة جمعنا فيها البيض ووضعناه فترة من الزمن بين الأعشاب الرطبة ليقسوا ويتصلب قليلاً، وبعدها نقسم بعضنا إلى فرق نتحدى خلالها تكسير بيض الفريق الخصم وفق طريقة معينة يوضع بها البيض بين الأيدي».
في حين أن الجد "اسماعيل نده" أكد أن الفرحة في تلك الأيام لم ينقصها شيء، متابعاً: «في عيد الجلاء قمنا بدعوة كل من يعرف طريقة العزف على الزمر، وطريقة طرب الطبل لعقد حلقات الدبكة الشعبية التي استمرت ثلاثة أيام بلياليها».
وفي لقاء آخر مع الباحث التراثي "حسن اسماعيل" قال: «لقد تصادف "عيد الجلاء" مع عيد الربيع -الذي يصادف "14/4" من كل عام-، حيث تزهو الدنيا والطبيعة به وتخضر وتتلون بألوان الطيف.
فعيد الربيع عيد كانت تحتفل به جميع الشعوب كل بحسب خصوصية مجتمعه، وفي الريف الساحلي كانت تميزه الأغاني التي تتمحور حول أغنية "زلفة يا أم الزلف"، وهي أغنية شعبية تتحدث عن صبايا القرية وكيف يلبسن أثوابهن المزركشة والملونة بألوان الربيع، وكيف يلون بوجودهن حلقات الدبكة الشعبية، حيث اقترن في تلك الفترة هذان العيدان بعاداتهما وتقاليدهما وفرحتهما ليصبحا عيدا وطنيا وقوميا نحتفل به في السابع عشر من نيسان في كل عام».