عُرف عن عشيرة "الذياب"، التي تنتمي لقبيلة "العفادلة"، التسامح والعفو، وهي شيمة متوارثة لديهم، لأن شيخهم "شلاش المجحم البشير الهويدي"؛ شيخ القبيلة، هو من سّن المدونة الاجتماعية لأهل الرقة"، التي وُضعت لحل النزاعات بين الأطراف المتخاصمة. كان يوم الجمعة 18/3/2011 يوماً مشهوداً في محافظة "الرقة"، ومثالاً للتسامح والعفو، حيث جرت "صلحة" حضرها أكثر من ألف شخص، لحل نزاع بين طرفي عائلتين من العشيرة.
حدثت الواقعة في يوم 3/8/2009 ومن يومها لم يهنأ الطرفان بعيش إلى أن تدخل العقلاء وعلى رأسهم شيخ عشيرة العفادلة "شلاش المجحم البشير الهويدي"، الذي سعى إلى الصلح حقناً للدماء بين أفراد العشيرة الواحدة، وللوقوف على المراحل التي تمت لعقد المصالحة، التقى موقع eRaqqa السيد "قيس الأحمد البشير الهويدي"، الذي تحدث قائلاً: «قام الشيخ "شلاش المجحم الهويدي" بمداولات مع أهل المجني عليه حقناً للدماء، وتمت الموافقة على إبرام الصلح بين الطرفين ضمن وثيقة شروط القبيلة، التي وضعت سابقاً بإشرافه، وسميت "المدونة الاجتماعية لأهل الرقة"، وهي يحّمل القاتل جريرة فعلته، ولا يتم إجلاء أحد من أقاربه، ويدفع ديّة القتيل وقدرها مليون ليرة سورية عن القتل العمد، واستمر التفاوض لمدة شهر تقريباً، حيث تم تحديد يوم الجمعة لعقد الصلح، لكونه يوم عطلة رسمية، حيث أغلب أفراد القبيلة من الموظفين، ولكي يتسنى لأكثرهم حضور الصلح.
قرار الصلح من القرارات الصائبة والحكيمة، لأن الحل جاء شاملاً ومرضياً للأطراف كافة، وهو معزز بكفيلين (الدخل)، وهما يتحملان مسؤولية كاملة تجاه أي أمر جديد، وفي حالتنا هذه سعى أهل الخير لحل هذا النزاع واستجاب له الطرفان، وهو يؤكد مسعى العشائر في اللجوء إلى الصلح الذي يعتبر سيد الأحكام
قام أهل المغدور ببناء أربعة بيوت في الشارع القريب من منزلهم، ودعي الناس لحضور الصلح، وفي البداية، تم تلاوة قوله تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ".
وتم التأكيد على شيم العفو، والتسامح، والإيمان بقضاء الله وقدره، وبعدها سأل الشيخ أهل المغدور تحديد واختيار "الدخيل"، وهو الجهة الضامنة للصلح وتطبيقه على أرض الواقع، ومنع نشوب أي خلاف مستقبلاً بين الطرفين، فتم اختيار "أحمد النجم"، و"أحمد الحسن الحمود المجهد"، وهما شخصيتان بارزتان من عائلة المغدور، فسألهم الشيخ هل تستطيعون الدخل من أعمامكم، فردوا: بعد المشاورات بيننا وبين أعمامنا نعطيكم الجواب.
فرددا ثلاث مرات وهما وسط البيت: "يا أعمامنا ندخل وآلا ما ندخل؟"
فرد الحضور: ادخلوا.. ادخلوا.. ادخلوا.
فردد الشيخ شلاش، قائلاً: "اهدونا على دخيلنا"، فقالوا له: دخيلنا "أحمد النجم"، و"أحمد الحسن الحمود المجهد". فرد الشيخ: "أنتما دخيلان عفا ودفا"، ويعني لا أحد من أهلكم يجفل الطرف الثاني ولا يخوفه ولا يزعجه، ويدفع أقرباءه لإسقاط الحق الشخصي في المحكمة.
بعدها طلب منهم الشيخ إدخال أبناء عمومتهم من الطرف الثاني، فأحضروهم، أحدهم يمشي بالصف الأول، والثاني يمشي في الصف الأخير إلى حين دخولهم البيت والسلام على أهل المغدور والضيوف، ثم طلب الشيخ الدية، وحق الدخل (وهو مبلغ من المال يحدد لشراء سلاحين للدخيلين لحماية الصلح وتطبيق شروطه وقدره /30/ ألف ليرة سورية)، حيث تم دفع الدية المحددة وقدرها مليون ليرة سورية حسب عرف وعادات قبيلة العفادلة، والتي مشت عليها بقية العشائر، بما فيهم عائلات مدينة "الرقة"، ثم أتوا بمحرمة بيضاء وشقوها إيذاناً بانتهاء المشكلة وسريان الصلح».
ويتابع "قيس الأحمد البشير" حديثه، قائلاً: «بعد إبرام هذا الصلح سيتوجه أهل المغدور إلى المحكمة لإسقاط حقهم الشخصي، كما أن المحرمة البيضاء المشقوقة من منتصفها ستطوف في أحياء المدينة، إيذاناً بانتهاء النزاع، وحله سلمياً، ويسمى الحل في هذه الحالة "صلحاً أبيض"، أي من قلب نظيف، يمحو كل الضغائن والثارات.
ولعلّ تميز هذه المصالحة ناجم عن قدرة الشيخ "شلاش المجحم الهويدي" على تفهم أبعاد المشكلة، إضافة إلى قدرته الفائقة في إدارة مثل هذه النزاعات التي يعتمد في حلّها على استشارة أصحاب الرأي والقانون ورجال الدين، واعتماده على العرف والعادة، فيأتي القرار مناسباً وصائباً».
وعن هذه المصالحة وأثرها في المجتمع، يقول الباحث "محمد الموسى الحومد": «تعد هذه الخطوة الإيجابية مثالاً يحتذى للعشائر الأخرى، وفاتحة خير لحل المشاكل كافة بين المتخاصمين، والدية هي عبارة عن صورة من صور التسامح الاجتماعي والديني، وخطوة للمواءمة الأخلاقية، وتصحيح الأخطاء الاجتماعية، وما شهدناه اليوم في هذه المصالحة صورة رائعة، كرّست المسامحة التامة بين الطرفين الذين امتازا بهدوئهما وخلقهما النبيل، فالجاني والمجني عليه ينتميان إلى عشيرة واحدة، وهما قريبان، وصديقا طفولة، وكانت الجناية إثر نزاع بسيط، أوقع ما وقعه، وأتمنى أن تكون هذه الخطوة في مصالحة الطرفين أسوة لكل من يخطأ في زمن نحتاج فيه إلى التقارب من الفرد إلى الأمة».
كما تحدث لموقعنا والد المغدور السيد "محمود النجم"، قائلاً: «بقلب متسامح ونفس راضية، قبلت بحكم العشيرة، والعادات والأعراف المتبعة في محافظة "الرقة"، التي تنصف المظلوم، وتعيد الحق إلى نصابه، والعفو من شيم الكرام، وأرجو أن يتقبل مني الله مرضاته في قبول الدية، التي أرجو أن تكون فاتحة خير لعودة أبناء عمومتي إلى حياتهم العادية، وممارسة أمورهم العامة مثل السابق، وأن تسود المحبة والوئام بين الطرفين».
وأخيراً تحدث السيد "أحمد المحمود الهادي"، من وجهاء قبيلة "العفادلة" قائلاً: «قرار الصلح من القرارات الصائبة والحكيمة، لأن الحل جاء شاملاً ومرضياً للأطراف كافة، وهو معزز بكفيلين (الدخل)، وهما يتحملان مسؤولية كاملة تجاه أي أمر جديد، وفي حالتنا هذه سعى أهل الخير لحل هذا النزاع واستجاب له الطرفان، وهو يؤكد مسعى العشائر في اللجوء إلى الصلح الذي يعتبر سيد الأحكام».
يذكر بأنه لم يكن في حساب أحد أن يقتل الجار جاره، ولا القريب قريبه، إنما هي ساعة غضب وطيش وتهور، جعلت من ع.ش /22/ سنة جانياً، ومن ع.م /18/ سنة مجنياً عليه، وهما القريبان من طرفي الأم والأب، عائلتان متجاورتان متحابتان، ومتصاهرتان، تربطهما عرى قرابة الدم والصداقة، أدت مشاجرة عادية بينهما لإسالة الدم، لكن العقلاء من الطرفين تقبلوا أمر الله بكل إيمان واحتساب.
ينتمي الجاني والمجني عليه إلى عشيرة واحدة، هي عشيرة الذياب من قبيلة العفادلة، وهي إحدى أكبر القبائل التي تعيش على ضفاف نهر "الفرات"، وهما قريبان، ويقطنان في نفس الشارع من حي "المأمون" (المشلب)، وشاءت الظروف أن ينشب خلاف بين الطرفين، ما لبث أن تطور من مشاجرة بسيطة إلى نزاع بالأيدي أدى لوفاة أحدهما متأثراً بجراحه.