عرف الناس المسرح منذ القدم لكن بصورٍ مختلفة؛ منها الاحترافي ومنها الهاوي والعبثي ومنها ما مضى وانقضى دون أن يتم تصنيفه، فكان لكل فترة زمنية مسرحها الخاص بأدواته وشخصياته وطريقة تعاطيه مع الحالة، ومسرح الظل واسع الانتشار في سورية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو نوع من أنواع المسرح الكثيرة التي مرت على "سورية"،

وعلى الرغم من ضعف الأدوات وقلة وسائل الاتصال في تلك المرحلة إلا أن هذا المسرح- مسرح الظل- وجد لنفسه موطئ قدم في معظم المحافظات السورية وكانت شخصياته الشهيرة "كراكوز وعيواظ" صديقاً لسهرات الناس في معظم المحافظات.

مكان العرض كان واحداً من اثنين إما مقهى وإما خيمة لذا فإن جمهوره كان من الناس الشعبيين والعمال وما شابه ذلك من الفئات الشعبية، بينما كان رجال الإقطاع والسياسة في تلك المرحلة يعتكفون عن الحضور لعدم رضاهم عن التواجد في هذه الأماكن. كما أن الأطفال كانوا غير مرحب بهم إلا برفقة أهاليهم وكانوا يمنعون من الدخول والحضور بمفردهم مما كان يضطرهم إلى المتابعة عبر النوافذ والثقوب الصغيرة لكي لا يفوتهم العرض

ومدينة "جبلة" هذه المدينة الساحلية الصغيرة على شاطئ المتوسط هي واحدةً من المدن التي مر بها هذا المسرح وكانت عروضه تلقى قبولاً وحضوراً مقبولاً من سكان هذه المدينة، لكن ماذا عن ذكريات مسرح الظل في هذه المدينة كيف وأين كانت تقام عروضه؟ وما الذي أسس له؟ وما القضايا التي كان يطرحها؟ وكيف تعاطى الأهالي مع هذا النوع من المسرح؟.

طه الزوزو

موقع "eSyria" بحث تاريخ "مسرح الظل" مع عدد ممن عاصروا هذا النوع المسرحي من أبناء مدينة "جبلة"، وبدأ مع السيد "طه الزوزو" الذي تحدث عن ذكريات هذا المسرح وآخر من جسدوا شخصياته قائلاً: «في مدينة "جبلة" كانت خيمة "كراكوز وعيواظ" تسليةً رئيسيةً لأهالي المدينة وظلت حتى نهاية الخمسينيات تستقطب معظم الأهالي وخاصةً في شهر "رمضان"، وكانت الشخصيات الأكثر شهرة في هذا المسرح "كراكوز وعيواظ" فهما كانا شبه قوام لهذا المسرح في كل فصل من فصوله، وهناك شخصيات أخرى كانت ثانوية كالمدلل وهو أصغر خيالات الخيمة و"قريطم" الذي يمثل الرجل المصري وأبو أركيلة "قشعو" وللخيمة حمار يدعى "كرش" بالإضافة إلى "طرمان" الذي يرمز إلى شيء مخجل فضلاً عن "آشو آغا" و"الصبية".

أشهر الذين كانوا يلاعبون هذه الشخصيات وهو يعتبر آخرهم المرحوم "سليمان عبد اللطيف معماري"، الذي كان يقف خلف الستارة "الخيمة" ويمسك بيده عصا رفيعة يحرك فيها رسوم الأشخاص المصنوعة من الجلد وبحكم وضعها على الشاشة يظهر خيالها مجسما من عكس النور عليها من الخلف ثم يتكلم الرجل ويحرك الخيال وكأنه يتكلم، فكان يبدل صوته حسب الشخصيات.

جهاد جديد

والحقيقة أن مسرح الظل اشتهر بالألفاظ البذيئة والمناظر المخجلة التي كانت عماداً له، حتى انه عندما عين "مدحت باشا" والياً على الشام امتعض من كثرة المقاهي التي يتواجد فيها هذا النوع من المسرح فما كان منه إلا أن شجع الراحل أبو خليل القباني على إيجاد تجربة بديلة وإقامة مسرح دائم في "دمشق"».

لم تكن الخيمة هي المكان الوحيد الذي تعرض فيه مسرحيات خيال الظل فكان لمقهى الميناء "الصيادين" الواقع مقابل ميناء "جبلة" سابقاً نصيبٌ من تلك العروض، الأستاذ "جهاد جديد" وهو أحد الذين شاهدوا بعض تلك العروض عاد بنا إلى الماضي بالقول: «مقدم شخصيات مسرح الظل في مقهى الميناء التابع لعائلة "حجوز" قدمها بشكل جيد يغلب عليه طابع التمثيل المعروف في أيامنا هذه لكنه كان الممثل والمخرج والمحرك الذي كانت حركاته وطريقة تعاطيه مع الحالة التي يريد إيصالها تبهر الجمهور الحاضر والذي كان عدده مقبولاً مع الأخذ بالحسبان أن نسبة من الأهالي كانوا لا يرحبون بحضور عروض كهذه، لأنها كانت مكاناً للنقد والتحدث بألفاظ بذيئة بين كراكوز وعيواظ. فالعبارات التي كانت تقال اعتبرت في تلك المرحلة دليلاً على وجود باطن محتقن من الناحية الاجتماعية لذا فإن مسرح الظل كان يعد وسيلة لتفريغ الشحنات من خلال الدمى وخصوصاً فيما يتعلق بمواضيع المرأة والجنس والسكن التي كانت المواضيع الأكثر إثارة إلى جانب المقالب المضحكة التي تفضح أنماطاً من البشر يقومون بأعمال لايرضى عنها المجتمع.

عبد الرحمن غزالات

لكن مسرح الظل بكل ما قدمه لم يكن له دورٌ مؤثر في توعية الجماهير وكانت الغاية المنشودة من قبل مؤدي الشخصيات هي إثارة الضحك والسخرية من أجل الكسب المادي فقط».

أبناء المدينة ممن امتهنوا العمل المسرحي وكان لهم بصمات إخراجية فيه لم يخرجوا مسرح الظل من الامتداد التاريخي للمسرح فاعتبره المخرج المسرحي "بدر زكريا" عاملاً أساسياً من عوامل تشكيل الحركة المسرحية فيما بعد ويقول المخرج "زكريا" عن مسرح الظل: «إنه عملية إسقاط أدواتها المنبع الضوئي واللعبة والشاشة "القماشية"، المنبع الضوئي يسقط الضوء على اللعبة فيظهر الخيال على الشاشة وتبدأ عملية تحريك اللعبة بواسطة العصا أو أصابع مجسد هذه الشخصيات.

ميزة هذا المسرح أن عملية الإضاءة فيه كانت بعكس عملية الإضاءة اليوم، فالإضاءة في مسرح الظل كانت تأتي من الخلف بينما الإضاءة في مسرح اليوم تكون من الأمام وبألوان مختلفة وقد تكون من الأعلى، والشخصيتان اللتان اشتهرتا فيه "كركوز وعيواظ" إنما هما ثنائية هزلية جسدت فيما بعد عبر "أنيس وبدر" وغيرهما من الثنائيات المعروفة، وهذه الثنائية كانت وستبقى كناية عن "الخير والشر، الأبيض والأسود، الحق والباطل، الذكي والغبي، إلخ.."».

جمهور هذا النوع من المسرح اقتصر على فئة معينة من الناس وسبب ذلك كما بينه لنا الحاج "عبد الرحمن غزالات" هو : «مكان العرض كان واحداً من اثنين إما مقهى وإما خيمة لذا فإن جمهوره كان من الناس الشعبيين والعمال وما شابه ذلك من الفئات الشعبية، بينما كان رجال الإقطاع والسياسة في تلك المرحلة يعتكفون عن الحضور لعدم رضاهم عن التواجد في هذه الأماكن.

كما أن الأطفال كانوا غير مرحب بهم إلا برفقة أهاليهم وكانوا يمنعون من الدخول والحضور بمفردهم مما كان يضطرهم إلى المتابعة عبر النوافذ والثقوب الصغيرة لكي لا يفوتهم العرض».

كانت حكايات كراكوز وعيواظ تتضمن شعراً ونثراً وأمثالاً قرأ لنا بعضها السيد "سليم حاج إبراهيم" وأكد لنا صحتها الباحث التاريخي "طه الزوزو"، ومن الأشعار التي كانت تلقى قبل بداية عرض مسرحية "كراكوز وعيواظ"،

يقول عيواظ :

بلبل الروض غنا مراعينا/ والله ياقوم شرفتم نواحينا.

طرابلس نابلس، سبع براج عالمينا/ بيروت، ست الملاح، صيدا تسلينا.

رحنا إلى الشام، قلنا الشام تغنينا/ جارت علينا الليالي، بعنا أواعينا.

وبعد ذلك يقول المشاهدون شرفتوا وآنستوا عيواظ.

ثم يتابع عيواظ:

شرفتم منازلنا يا أخير الناسِ/ يلي محبتكم تاجا على راسي

لولا محبتكم ماسرت من بلد إلى بلد/ ولا تعرفت من ناس إلى ناس.

ومما كان يقوله الصبية في مسرحية العفريت:

عاليانا يانا، ومن غرامة ويانا/ ياعيون حبيبي من السهر دبلانة

ليه ياقميص النوم رفعاني/ طل حبيبي بعد ماعاداني

مد زنودو وقلي تعي نامي/ على السرير نفقش الرمانا.

الجدير بالذكر أن أشهر مسرحيات خيال الظل في مدينة "جبلة" هي (منام جهنم، لعبة طرة ونقشة، الأونطة، العفريت، كراكوزان وعيواظان، الوزير الخائن).