عجوز معمر، طوى عمراً مديداً عمل فيه سائق شاحنة، جال بها مئات الآلاف من الكيلومترات داخل سورية وخارجها، انتهت به الحال اليوم إلى أراض متفرقة المساحة يعمل بها كمزارع وحارس أمين.

إنه "علي الجانودي"، ثمانيني يعيش في قرية صغيرة على طريق "كسب- اللاذقية"، تبعد حوالي 40 كيلومتراً عن مركز المدينة، يجلس وحيداً لا يحدث أحداً، ويأكل مما يزرعه ويطهوه على موقد حجري قد بناه منذ أكثر من 40 عاماً مضت على استقلاله على هذه الارض البعيدة عن الطريق العام الدولي مسافة 5 كم.

لا أقبل مساعدة أحد دون أجر، لدي أولاد يصرفون عليّ، وأنا ما زلت قادراً على العمل

ينام داخل الخيمة التي يبنيها في الصيف لتحط من دعائمها رياح الشتاء العاتية وأمطار الجبال الساحلية الغزيرة، ورغم كل ما يحصل له، إلا أنه بقي إلى اليوم ينام فيها كاسياً جسده العتيق بأغطية قد بللها ماء المطر.

خيمة الجانودي وسط ارضه

موقع eLatakia زار القرية الصغيرة وبحث ولشهور كثيرة عن "الجانودي" العجوز، ليلتقيه في الطريق وهو ذاهب إلى خيمته وأرضه الصغيرة.

وقبل أن نتحدث إليه كنا قد تحدثنا الى ولده الصغير "ماهر جانودي" الذي كان قد حدثنا مسبقاً عن طبيعة تفكير ومعاملة والده لهم وللآخرين فقال: «أبي رجل يعمل من كل قلبه، يصحو باكراً، يحب أولاده كثيراً، يخاف عليهم، ويفرح كثيراً عندما يعملون وينجحون في عملهم، قضى جل حياته في السفر على شاحنته التي تشارك فيها مع أخيه، ولكن بسبب ظرف غامض حدث له ذات ليلة على طريق العودة من "حلب" إلى "اللاذقية" خلال الستينيات من القرن الماضي، هجر السفر والناس واختار أن يعود إلى أراضي المرحومة أمه في قرية السرايا على طريق كسب والتي كانت تملكها المرحومة منذ بداية القرن العشرين وما قبل، والتي بقي فيها كل من كان يعمل فيها ولم يبق له سوى بعض البقاع المتفرقة».

خيمته حطها المطر

يضيف ولد الشيخ العجوز حديثه عن أبيه: «رغم دعواتنا له ببناء منزله الموجود في أعلى القرية، إلا أنه يرفض ويفضل البقاء قريبا من أرضه التي يجني منها محصولها ليبقي حاجته ويأتي إلينا في المدينة بالباقي، وهو ينزل إلى "اللاذقية" باستمرار ويزور أولاده ويتحدث إلى أحفاده ويحضر لهم الهدايا رغم تغير نفسيته وتفكيره وتعاملاته مع الآخرين».

وعن مصير الشاحنة التي كانت لديه تحدث الشاب "عبد الرحمن جانودي" قريب "الجانودي" العجوز: «بعدما حدث له ما حدث خلال تلك الليلة السوداء كما يقال عنها، تبدلت نفسية "علي الجانودي"، فاحضر الشاحنة وأبقاها بقربه إلى أكثر من عشرين عاماً حتى أتى ابن أخيه وقام بشرائها منه».

الطريق الى ارضه

خلال زيارتنا إلى أرض "علي الجانودي" قال لنا عندما سألناه عن سبب إقامته هنا: «هذه الأرض التي أجلس فيها هي من حق أمي كما باقي الأراضي التي من حولكم، جميعها لنا حيث إن أمي ورثتها عن أختها الوحيدة لكن للأسف المزارعون كانوا مستأجرين تلك الأراضي ولم يخرجوا منها حتى الآن، ومازلت أنتظر طوال السنين الأربعين أن يدفع سكان القرية ثمن تلك الأراضي، وأيضاً البيوت المقامة على بعض تلك المساحات، وأنا الآن بلغت الثمانين من عمري وما زلت أنتظر وسأظل أنتظر».

الشيخ العجوز كان ملولاً على الرغم من ترحيبه الطويل بنا حينما قدمنا إليه أثناء جلوسه على أحد مفترقات القرية وحيداً، أجابنا بعد إلحاحنا عن بعض الأسئلة: «لا أقبل مساعدة أحد دون أجر، لدي أولاد يصرفون عليّ، وأنا ما زلت قادراً على العمل».

لم نستطع إطالة المدة في مجالستنا للسيد العجوز الذي زرنا جيرانه ومن يعرفه في القرية، فيقول السيد "حسن جقل": «لا تصدق إن قلت لك بأنه ميكانيكي بارع، رجل تحمّل وما زال يتحمل أقسى ظروف الطبيعة على الإطلاق، حينما يتشكل الضباب ويسقط الثلج وتنهمر الأمطار وتهب الرياح، يكون داخل خيمته على طرف نهر القرية كجندي مستبسل في معركته، كريم وطيب القلب، يتجنب الناس ظناً منه أن ذلك أحسن الأعمال لتفادي المشاكل التي ستأتيه من مخالطتهم، يرد السلام على الذي يشعر بأن سلامه حقيقي، ولا يرد على من يستهزئ بكبر سنه وأفعاله التي يقوم بها في منطقته التي تـُبدي مدى عنايته بها وحرصه عليها».

قصص غريبة يرويها الطبيب البيطري "محمد أزرق" المقيم في القرية عن الشيخ العجوز كشاهد عيان عايش بعض القصص بنفسه: «أعرفه جيداً، رجل غريب الأطوار يملك قوة بدنية لا يستهان بها، يملك حماراً قد صنع له طنبراً يقوده الحمار إلى القرى المجاورة لكي يبتاع بعض الحاجات التي يريدها "الجانودي"، الطنبر صنعه بيديه، صغير يتكئ على عجلتين صغيرتين لا يتجاوز قطر الواحدة منها خمسة عشر سنتيمتراً، القاطرة الصغيرة مصنوعة من الحديد، يجرها الحمار رغم انخفاضها الكبير تجاه الأرض إلا أن الشيخ الثمانيني قضى على طنبره عشرات السنين معتمداً عليه في جميع رحلاته التي قام بها، أما القصة الأبرز فهي في ما يحكى أن "الجانودي" مشى على طنبره إلى المدينة التي تبعد أكثر من خمسة وثلاثين كيلومتراً، وعاد عليه أيضاً».

وبمزيد من المعلومات الخاصة بهذا الرجل الاستثنائي التي حصل عليها موقعنا، يروي الدكتور "أزرق" أيضاً: «ذات مرة كنت جالساً في عيادتي التي يجاورها العديد من محلات الميكانيك والحدادة، فكان هناك عطل ميكانيكي صعب يواجه أحد الشبان في سيارة حديثة، وبطريق المصادفة مر "الجانودي" ليرى الشاب يعاني من صعوبة كشف العطل وإصلاحه أيضاً، وهنا تصدى العجوز ودون دعوة من أحد وسط اندهاش الجميع، وخلال دقائق كان العطل بين يديه المعتقتين بتعب الدنيا قد تم إصلاحه دون أن يأخذ أي أجر يذكر، ويتابع بعدها مشواره القريب إلى مقامه الطبيعي العشوائي في غابته القريبة من النهر».

في حين يقول ابن أخ "الجانودي" السيد "أحمد جانودي" وهو موظف: «عمي رجل يعيش بحاله، يحب الجميع بلا استثناء إلا أنه يحب اعتزال الجميع حتى نحن أقاربه، له سبعة أولاد، معظمهم يعمل بمهنة أبيه سائق شاحنة نقل، والبعض فضل السفر للعمل بمهنة ما يتقنها، كان لعمي شاحنة يعمل عليها منذ سنين مضت، ولكنه باعها لسوء الأحوال المادية ليبقى هنا على هذا الجدول، يتردد عليه ولأيام ولأشهر متتالية وبعدها ينزل إلى البلد "اللاذقية"، ولكنه لا يقوى على الجلوس هناك فيعود إلى خيمته وأرضه كل مرة، يتميز بقوته التي لم أرها من أحد قبله، يتقن الزراعة، وهو ذكي جداً تراه يحادثك كثيراً بأشياء مرت به منذ أكثر من 60 عاماً يصعب على من هم بعمره الآن أن يستذكروها».

وحول إذا ما كان يعاني "الجانودي" الشيخ من أي مرض حاليا تحدث ابن أخيه "أحمد جانودي": «لا يعاني من أي مرض رغم كل ما مضى عليه من سنين وظروف سيئة، يدخن الدخان العربي التقليدي، يأكل مما يجنيه من أرضه التي يعمل على حراثتها بنفسه دون مساعدة أي إنسان».