لم تكن بلدة "الدرباسية" في الخمسينات ومطلع الستينات تعرف أنها تحتضن بين دفاتها فنانا سيعيد الأسطورة السورية إلى الحياة لأنها لم تعتد أن تعيش حالة فنية لو بأدنى مستوياتها، ومن جهته لم يكن ليرضخ لما جال من حوله في غياب تام للحركة الفنية بأبسط ما تطلبه، فرغم غياب الثقافة الفنية والمعارض وحتى الألوان الزيتية آثر "يعقوب إبراهيم" في أن يكون واحدا من الوجوه الفنية السورية مجسدا على أرض الواقع حلما تعلق به منذ الصغر ليرسم خطوط مذهب فني جديد غير مسبوق من ذي قبل.
زار esyria الفنان "يعقوب إبراهيم" في منزله ذلك في 5/3/2009 ليحدثنا عن مسيرته الفنية التي سادتها المصاعب وعن مشروعه الخاص في تجسيد الأسطورة السورية فنيا.
لا يمكن أن أقول أنني أخطط لإنشاء مدرسة فنية جديدة لأن الفن بشكل عام وبكافة فروعه هو عبارة عن وجهة نظر يتم تجسيدها على أرض الواقع بأسلوب فني، وفي الحقيقة لم تتعدد المدارس الفنية إلا بسبب تعدد وجهات النظر التي تم تقيدها بقواعد تضمن جودة هذه الوجهة التي راحت تتبع وتأخذ حيزا أبعد من صانعيها
فعن بداياته وعن حكاية أول معرض فني في "الدرباسية" يحدثنا الفنان "الإبراهيم" فيقول: «تعتبر المنطقة التي عشت فيها صغري "الدرباسية" فقيرة فنيا وليس فيها جمهور أو حتى فنانين تشكيليين فلم يعتد أهالي منطقتنا على إقامة المعارض والاحتكاك بالجو الفني وخصوصا التشكيلي منه ومن جهة أخرى لا يمكن لأي فنان أن يلتق اللحظة الأولى له في التوجه الفني إنما هناك صور تتربص بذاكرة الفنان الحالية متعلقة ببداياته ومن هذه الصور أذكر أنني كنت في المدرسة في الصف الخامس تقريبا ورسم لنا المعلم على السبورة صورة أثرت فيّ كثيرا، وبقيت عالقة بذهني لفترة طويلة وأنا أفكر بهذا المعلم الذي صنع شيئا من لا شيء إذ شعرت حينها أن هذا المعلم قد صنع شيئا مختلفا عما يدعى درسا مكتوبا على السبورة ورحت أفكر بتقليده بأكثر من طريقة إلى أن ذاع سيط عني أنني أعرف كيف أرسم مع أنني لم أكن أعرف أنني رسام أم لا، إلى أن تواصلت مع صديق أخي الذي عرفني على الألوان الزيتية التي لم تكن معروفة عندنا في المنطقة والذي جلب لي منها من "دمشق" لتبدأ رحلتي الهاوية التي سادتها التجربة والتي كان معظمها فاشل إلى أن قمت بعمل أول معرض فني في منطقتنا وكان على نطاق ضيق جدا إلا أنه نال إعجاب الكثيرين وكان أول معرض فني يقام في تلك المنطقة، عندها بدأت أقتنع أن ميولي الفني بارز وتوجهت مباشرة إلى كلية الفنون في "دمشق" بعد حصولي على الشهادة الثانوية وكنت ملتزما بشكل كبير في حفظ الدروس والالتزام العملي، إذ أنني أحيانا كنت أنتظر المستخدم على باب الكلية إلى أن يأتي ويفتح لي الباب للدخول وكل هذا انطلاقا من حبي لأن أتعلم الأصول والتقنيات الأكاديمية في الكلية وأبدأ مشواري الفني الحقيقي حتى هذا اليوم».
وفي إحدى المحطات الطريفة في حياة الفنان "يعقوب إبراهيم" تمت سرقة أحد أعماله الفنية التي كانت من جملة أعمال مشروع تخرجه إلا أنها لعبت دورا إيجابيا في شخصيته فيحدثنا عنها:
«كنت أقدم مشروعا فنيا عن الطبيعة الصامتة مؤلفا من عدة لوحات إلا أنني اكتشفت في أحد الأيام أن أحد اللوحات قد سرقت فشعرت بالغضب عندها وشعرت أنني مغدور بشكل كبير وفكرت بالانتقام حينها لكنني تفاجأت جدا عندما رأيت السعادة على وجوه بعض الأساتذة الذين شرحوا لي موضوعا كان غائبا عن ذهني يتلخص في أن من سرق اللوحة الواحدة من جملة اللوحات كان قد أعجب بها وشعر أنها تختلف وتتميز عن سواها فهذا يعني تفوقا لصانعها، بالطبع اقتنعت بما قالوا لي وبدأت أشعر أنني مختلف عن باقي الفنانين في صفي».
وعند الحديث عن المشروع الخاص المرتبط بفن الفنان "يعقوب إبراهيم" والذي يعتبر وحيدا في "سورية" في تجسيد لوحات توحي بأنها من الأسطورة السورية والفن الآرامي العرق يقول:
«لا يمكن أن أقول أنني أخطط لإنشاء مدرسة فنية جديدة لأن الفن بشكل عام وبكافة فروعه هو عبارة عن وجهة نظر يتم تجسيدها على أرض الواقع بأسلوب فني، وفي الحقيقة لم تتعدد المدارس الفنية إلا بسبب تعدد وجهات النظر التي تم تقيدها بقواعد تضمن جودة هذه الوجهة التي راحت تتبع وتأخذ حيزا أبعد من صانعيها».
أما عن بداية ميوله بهذا المنحى يحدثنا "الإبراهيم" قائلا:
«بدأت أفكر في خلق مسار خاص عبر الفن التشكيلي عندما سافرت إلى إيطاليا بغية إتمام دراستي العليا وذلك على خلفية عدم قبولي في الدراسات العليا في جامعة "دمشق"، وهناك إثر دراستي التي تخصصت في الجداريات بدأت تنشأ علاقة بيني وبين الأسطورة والفن الأسطوري الخالد الذي لمسته من فنانين عظام خالدين منهم من هو معروف ومنهم من غابت هويته، ولم يكن لي أن أجرب هذا المجال بسبب وجود الكثيرين من الفنانين المختصين الذين عملوا في المجالات الحركية العميقة، لكنني كنت دائما أقتنع بأنها من صنعهم أي تخصهم فقط».
ويتابع في الحديث قائلا: «عندما بدأت أفكر فعليا في إنشاء جملة فنية حركية تخص تاريخنا وثقافتنا وحضارتنا التي ليس لها أن تغيب عن ذاكرة التاريخ، إلى أن أصبح هذا المشروع عبارة عن هاجس يراودني، فبدأت أطلع على الفن الأسطوري السوري وأتعمق في جدارياته ونقوشه التي ذهلت العالم أجمع منذ تاريخه وحتى يومنا هذا، إذ تشتهر مناطق الجزيرة بتلك النقوش الأثرية التي تعتبر من الأساطير العالمية التي تعود لقرون غير معدودة».
وعن مشروعه الأول المنجز في هذا السياق يحدثنا الفنان فيقول: «بعد أن شكلت خلفية علمية فنية موثوق بها بدأت بإنجاز مشروعي الفني الخاص الأول المتجسد في إنشاء جداريات أو لوحات فنية تشكيلية ترمز إلى الزمن الأسطوري السوري لكنها وليدة اليوم وتابعة للمعاير الفنية التي تسير عليها كافة الأعمال وتعترف بها المدارس ووجهات النظر، إذ أن اللوحة توحي لك بأنها لوحة أثرية وليست معاصرة إلا أنها في حقيقة الأمر معاصرة وغير مقلدة للوحة أثرية بل هي منتجة بكامل جزئياتها من الفكرة إلى خطوط والأبعاد والتجسيد في الوقت الحالي وليس منذ زمن غاب عن الذاكرة».
أما عند سؤاله عن آلية عمله باعتباره يسلك منحى جديدا غير مسبوق وإمكانية تطويرها أجابنا الفنان قائلا: «لما رأيته من تقبل كبير لهذا الفن عربيا وعالميا بدأت أتعمق فيه أكثر وأغوص في معالمه عاملا على تطوير أدواتي وجعل اللوحة صادقة في التعبير أكثر لتكون أكثر إقناعا جاء الجزء المتطور من عملي في رسم هذه اللوحات على أحجار أصنعها بنفسي إذ أنحت الحجر ثم أقوم بنقش لوحتي الفنية عليه ومن ثم عملت على مبدأ متطور أكثر ذلك في جعل اللوحة نافرة بغية جعلها صادقة أكثر من الواقع».
وعن هدفه من هذا المشروع يقول: «دائما يسعى الفنان إلى التمييز بفنه عبر خلق وجهة نظر جديدة مبنية على أساسات ومبادئ معينة، وهدفي من هذا المشروع هو أن أنسج طريقا يرضيني كفنان تشكيلي بتجسيد الذي أحب والذي يعجب فضولي راسما خطا قد يكون غير تقليدي أو اعتيادي في أوساط الفن التشكيلي وذلك عبر سلسة البحث عن صلة تربط الأسطورة التاريخية بالواقع المعاصر بكل ما يحتويه من تقاليده وعقده».
وباعتباره من خريجي كلية الفنون الجميلة في جامعة "دمشق" أجابنا عن مدى إمكانية تدريسه لهذا المجال الفني الجديد فقال:
«صحيح أنني أعتبر أول من قام بتجسيد هذا الفن في سورية، لكن ليس بالإمكان أن أعمل على تدريسه أو نقله للأجيال الفنية الجديدة لأن هذا المشروع يعتبر ذاتي نابع عن حب الفنان وتعلقه بما يقوم على تجسيده ومن جهة أخرى أنا لم أكتف بعد من هذا المشروع ، إذ هناك الكثير مما أرغب في صنعه والكثير مما أرغب في تعلمه».
يذكر أن الفنان "يعقوب إبراهيم" من مواليد بلدة "الدرباسية" عام (1956) ودرس في جامعة دمشق كلية الفنون الجميلة وحاز على شهادة الماجستير في الجداريات من إيطاليا كما شارك في العديد من المعارض الفنية على المستويات العربية والعالمية والمحلية حائزا على العديد من الثناءات والجوائز ليخط بريشته سيرة فنية مصنوعة من الذهب لن تزول إلا بزوال كل ما هو جميل في عالم الفن التشكيلي.