بين دمشق والحسكة، ومن ثمّ دنيا الاغتراب، تشكّل وعيَ "روشن علي جان" الشعري، المولودة في دمشق، والمُقيمة اليوم في مملكة السويد منذ عام 2015، حيث بدأ شغفها بالكلمة منذ سنٍّ مبكرة، حين وجدت في القراءة ملاذًا، وفي الكتابة خلاصًا من ضجيج الحياة اليومية. وقد بدأت بنشر نتاجها متأخرًا نتيجة ظروف خاصة.

بين البساطة والعمق

تميلُ "روشن علي جان" في كتاباتها إلى أسلوب التأمل الداخلي، وتجمع لغتها بين البساطة والعمق، إذ تؤمن أن الكتابة ليست ترفًا، بل ضرورة روحية ومنجاة من الخيبات والانكسارات.

تقول في حديثها لـ "مدونة وطن": "نشرتُ قصائدي في البداية في العديد من الصحف والمجلات العربية مثل صحيفة تشرين السورية وأوروك العراقية، وفي موقع ضفة ثالثة، والكثير من المواقع والمنتديات الأخرى. كما نشرتُ قصائد مترجمة في مجلات ومواقع سويدية مثل Live Encounters، وموقع دار النشر الإنجليزية Anvil Tongue Books، وصحف ورقية بنغلاديشية مثل The Daily Asia Bani. وقد تُرجِم العديد من نصوصي إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والسويدية والكردية والبنغالية"، وذلك كله قبل أن أجمع هذا النتاج الثري في مجموعاتٍ شعرية صدرت مؤخرًا.

الناقد علاء محمد والشاعر جميل داري والناقد ثامر سعيد

وروشن ليست فقط امرأة تكتب الشعر، بل هي – كما تقول – منفىً يسكن القصيدة، وفي قلبها وطنٌ ينام ويصحو على حروف الحنين، وطنٌ مُطرَّزٌ بحقول الزيتون والحنطة والسمسم المبارك.

ما مِن شيءٍ يؤلمُ بغتةً / أيتها البلادُ النائمةُ في الخراب..

الشاعرة روشن وأحد مؤلفاتها

امنحيني شغفًا يتلو خطى البداية كمعجزةٍ سماويةٍ..

امنحيني جسدًا بأقدامٍ ملتويةٍ / ويدًا تهزّ الليلَ في عيني طفلٍ يتيمٍ..

لأقصَّ عليكِ رحلةَ العائدينَ / من الموتِ على غيرِ هدى.

بلاغةٌ وقيمٌ جمالية

ورغم المسافة الموجعة عن سوريا، لا تزال روشن علي جان تلك الشاعرة التي تحفظ أسماء القرى والمدن كما يحفظ العاشق ملامح حبيبته، وتؤمن أن لا حضن أدفأ من حضن الوطن. وقد تجلت كل هذه الشواغل في نصها الشعري بلاغةً وقيمًا جمالية.

هذا النتاج الشعري لروشن علي جان شكّل غوايةً نقدية للكثيرين، حيث يرى الشاعر جميل داري أنّ جان تكتب قصائدها الوجدانية المعبّرة عن ذاتها التوّاقة للطيران في عالمٍ حالمٍ بالحرية. تبدو حينًا واضحةً هادئةً كضحكةٍ في المهد، وغامضةً حينًا آخر كنيزكٍ متمرّدٍ على مداره.

تصوّر خلجاتها بالخيال الشعري الذي هو من أول شروط البناء الفني، وغالبًا ما يكون هذا الخيال من صميم تجربة الشاعرة حياتيًا وشعريًا. تارةً تشعر أنها تلوذ بالصمت في آخر القصيدة التي تبدو لا نهائية، فتراك تعيد قراءة النص مرارًا لتتعمق أكثر في انزياحاته ودلالاته. وبقدر ما يكون الخيال غائصًا في البعيد، تقترب من عالمها المكتنز بأسرار الأفكار والمشاعر السابحة في لغةٍ لا تشوبها شائبة، وفيها الموسيقا الحرة غير المقيّدة.

ومن تقنياتها في صياغة النص الشعري أنّ جان تبدأ القصيدة غالبًا بسطرٍ فيه براعةُ الاستهلال، ما يجعلنا نتشوّق إلى تتمة القراءة بشغفٍ وفضول، حتى ينتهي بنا المقام عند مسك الختام. وما بين البدء والخاتمة، تأخذ بلبّك الأساليب المختلفة من وصفٍ وتصويرٍ وسردٍ وومضاتٍ يأخذ بعضها برقاب بعض.

عذبًا تمرُّ على أعشاشِ الطّفولة / ثملاً بلهاثِ المسرّات..

مثلَ صلاةٍ تداعبُ وجهَ النّهار/ فوجهُكَ ما زالَ مثلَ كوكبٍ..

يكشفُ الضّجرَ عن مداراتِ الكونِ بابتسامةٍ صباحيةٍ..

أمنيات على حبل الحنين..

رمزية مركبة وتكميلية

ويرى الناقد "علاء محمد" أنّه عندما نطلق كلمة التجريب فإننا في منطقةٍ نوعية تقودنا الشاعرة "روشن علي جان" إليها، وهي منطقة التمعّن الدلالي من جهة، والمتعلّقات التأويلية من جهةٍ أخرى.

فالنصّ المكتوب الذي يواجهنا يعتمد على بعض المسمّيات الرمزية، كأنّ هذه المسمّيات من الأشياء المتعلّقة بالذات الحقيقية، ومن هنا يكون السياق اللغوي هو الجامع لهذه الأشياء.

فقد ربطت الشاعرة – على سبيل المثال – الفجر بالهجران، وهو الرمز الذي اعتمدته بين الاستيقاظ فجرًا وبين السهر أو التعب المتكرّر للآخر. بينما نلاحظ أنّها لامست الحواس بشكلٍ عام، وطالما ذكرت مفردة النبض إذن، قادتنا الشاعرة إلى علاقةٍ داخلية بين نبض الحواس والأشياء الخارجية، حيث تتمّ الرؤية لديها وهي تطارد بعض المكوّنات النصّية.

حينَ يتعبُ الفجرُ/ تتثاءَبُ بوصلةُ القلبِ..

وتمشي المسافةُ حافيةً/ والعابرونَ في اللامكانِ..

يتأمّلونَ الغياب.

وأضاف:

"تعتمدُ الشاعرة على الاختلاف اللغوي والتعيين الرمزي في تدجين النصّ الذي جاءت حياكته بذاتٍ حقيقيةٍ رفضت الواقعَ المباشر، ومن هنا، فقد استطاعت الغناءَ فترسيمَ بعض المسافات بينها وبين المفردات. كما نلاحظ أن أغلبية الجمل الشعرية اعتمدت على حركة الأفعال في تدجين اللغة ورسم المفاهيم الانتقالية من معنى إلى آخر، ولكن ضمن المقطع الواحد الذي يُشكّل الجزء من الكلّ: "يتعب، تتثاءب، تمشي، يتأمّل، يصادق، وتحسدُ..." كلّ هذه الأفعال وتراكماتها شكّلت حركةً انتقالية في المعاني؛ فقد جعلت الشاعرة الرمزية مركّبة في بعض العبارات والجمل، وبعضها تكميلية انتقالية."

يا إلهَ البحارِ الضّالّةِ/ أنا البذرةُ التي قضَتْ نحبَها على شاطئٍ بعيد..

أنا طائرُكَ الشَجيّ/ جرحي طازجٌ/ وجفنايَ ملاذُ الرّملِ والصدى..

وصدري مُتحفٌ للغيابِ.

ويختم الناقد"ثامر سعيد"بقوله:

إن صرخة الشاعرة في نصّها كنداءٍ أخيرٍ لشهوةِ أمنياتها المعلّقة على حبلِ الحنين، من كوبنهاغن حتى تل زيارات– النشأة الأولى – هي صرخة اكتنزت همًّا إنسانيًا شاهقًا ووجعًا وجوديًا عنيفًا لا يمكن تهدئته حتى بزهر القرنفل المشهور بكبت الأوجاع وسكونها.

مثل ضوءٍ شاسعٍ/ مثل صهيلِ نجمةٍ في المدى/ مثل أجنحةٍ تسابقُ الرهافةَ إلى النهر..

مثل انتظارٍ يشتعلُ على عتباتِ الجنون/ مثل خيالِ وردةٍ نامت في سريرِ الغيم..

وغيرها من صرخاتٍ ملءَ دمٍ متناسلٍ في خريف العواصم.

وضحكاتُ الأيامِ الغابرة لم تعد سوى ذكرياتٍ، وحافزٍ لصراخٍ مكبوتٍ على شاطئ الغياب، حيث لا أحدَ يُصغي إليه غيرُ قصائدٍ تنضحُ بالهواجس الثقيلة، ثم تزدحمُ في بوح الشاعرة.

فليلُ الغريب موحشٌ وطويل، وهكذا تُنتِجُ المعاناةُ والظروفُ النفسيةُ لوحاتٍ مكانيةً مدبّبةً ووعرةً، لا تتوانى عن تجريحِ من اقتربَ منها، وتشعره أنّ من رسمها مصابٌ بـ"النوستالجيا" المزمنة.