رغم أن شهراً فقط مرّ على افتتاح متحف فن إعادة التدوير في المجمع الثقافي التربوي في ساحة القصور بدمشق، إلّا أنه يستقبل يومياً زوّاراً من مختلف الشرائح والأعمار، إلى جانب رحلاتٍ مدرسيّة من المحافظات، تأتي خصيصاً لزيارة المتحف الأوّل من نوعه والوحيد المعني بالأطفال في سورية، عدا عن كونه مُجاوراً لمتحف العلوم الطبيعية والمكتبة التربوية وصالة الفن المعاصر، بحيث يُمكن الاطلاع على محتويات الأمكنة جميعها في الوقت ذاته.

اهتمامٌ عالمي

الفنان التشكيلي موفق مخول موجه التربية الفنية في مديرية تربية دمشق والمشرف العام على مراكز الفنون التشكيلية، تحدّث لـ "مُدوّنة وطن" بدايةً عن الحاجة التي تزداد يوماً بعد يوم للاستفادة من مخلفات وبقايا البيئة، لهذا اكتسبت فكرة إعادة التدوير اهتماماً عالمياً، وطرح مخول مثالاً عن علب العصير المصنوعة بطريقة فنية وكلفة كبيرة تشمل العبوة والغلاف والغطاء، حتى أن كلفتها تفوق سعر المواد الموجودة فيها، ومن ثم لا يُعقل رمي كل ما سبق في القمامة بمجرد الانتهاء من شرب العصير، وهو ما ينسحب أيضاً على الأغراض والحاجيات اليومية المُستهلَكة، والتي تنتج عنها قمامة تفوق حجمها، يقول مخول: "تراكم هذه الأشياء أصبح عبئاً حقيقياً، ولا حل سوى تدوير البيئة للاستفادة مما عندنا وتخفيف كم النفايات الناتج".

في المناهج الفنيّة

المناهج الفنيّة في سورية راعت ما سبق، وتجاوزت ما كان سائداً فيما مضى في التعاطي مع حصة التربية الفنية بالرسم وحده، يقول مخول: "الفن لم يعد رسماً أو لوحةً فنيةً بل نشاطاً إنسانياً وآلية تفكير ترتبط بالحياة اليومية، اليوم نسعى مع الزملاء جميعاً ليكون طلابنا أذكياء ومفكرين وأصحاب عقول نشِطة، الفن وسيلة لتنمية الذكاء ومجالاته واسعة في التفكير أكثر مما نتوقع، فهو موجود مثلاً في الرياضيات والفيزياء والكيمياء، أيضاً في الفلسفة والإنشاء، وهو شكلٌ لعلاقة الأفراد في المجتمع الواحد، وما يحمله كلٌ منهم من احترامٍ لذاته وللآخرين، فلو كانت شرفة بيتك مرتبة ومزينة بالورد، فهذا احترامٌ للجيران والشارع والآخر الشريك، لكن لو كانت هذه الشرفة مليئة بالكراكيب والأغراض المكدّسة فهذا عدم احترام لكل من ذكرناهم".

وبيّن مخول في حديثه للمدوّنة بأن معلّمي الفنون يوجهون الطلاب للتفكير في ما حولهم، وكيفية الاستفادة منه وتحويله إلى حالة جمالية وذات فائدة: "نريد من طلابنا أن يُفكروا قبل رمي أي شيء في القمامة، وأن يتذكروا دائماً الظروف الصعبة التي نعيشها، وغلاء الأسعار الذي يشمل أبسط المواد والمُنتجات.

فكرة المتحف

التوجيه ذاته طُبق في خمسة عشر مركزاً تربوياً للفنون التشكيلية تتبع لمديرية تربية دمشق، يحمل كلٌ منها اسم فنانٍ تشكيليٍّ سوري، ترك بصمةً في المشهد الثقافي منهم (ميلاد الشايب، مروان قصاب باشي، وليد قارصلي، سوسن جلال)، من هنا حاول المشتغلون فيها تقديم أعمالٍ مُستوحاة من روح الفنان الذي سُميّ مركزهم باسمه، ومع وفرة المُنتجات والمعروضات، ظهرت فكرة المتحف المختص بهذا النوع الفني، يُضيف مخول: "فكرة المتحف مهمة جداً، لأننا نفتقر إلى متاحف تخص الأطفال في سورية، والجميل أن المعروضات بأيدي طلاب مدارسنا الذين يلتحقون بالمراكز خلال عطلة الصيف، وهم من مختلف المراحل الدراسية، كذلك يُقدم المعلمون المشرفون مُشاركاتٍ مميزة، ومنذ الافتتاح نستقبل الزوار يومياً، عائلات وطلاب وجمعيات، يستمتعون بما يرون من صنع أبنائنا، ولا بد من الإشارة إلى أن فن إعادة التدوير يمتلك قابلية التطوير، لا يعترف بالثبات ولا يقف عند فكرةٍ محددة، بل يدفع صاحبة للبحث والتفكير والابتكار".

يضم المتحف منتجاتٍ ومشغولاتٍ يدوية من إعادة تدوير توالف البيئة المتنوعة (حديد، زجاج، خشب، قماش، أحجار، ورق)، وإن كان أغلبها من بقايا الكرتون والقماش، لأن الكرتون كما يشرح مخول متوافر حولنا في البيوت والمحلات، ومعظمه يُرمى بعد الانتهاء منه، ويُمكن أن تُبنى عليه أفكار منوعة (مجسمات، لوحات، تكوينات بصرية)، في حين تحمل بقايا القماش، ألواناً تُساعد في عمل قصاصاتٍ جميلة ملونة.

صعوبة المُتابعة

ومع أن متابعة الطلاب لتقديم المزيد والاشتغال بأساليب أخرى ضرورة، لكنها ليست أمراً سهلاً، يُوضح مخول: "البعض ينقطع عن زيارة المركز بسبب الدراسة أو السفر أو تغيير السكن، كذلك تستوجب المتابعة إمكانياتٍ كبرى لتحويل العمل إلى منتج فني وصناعي قابل للاستخدام، لدينا موهوبون ومشرفون أكفاء لكن الاستمرارية المُستقبلية صعبة، مُهمتنا التي نسعى لإنجازها كما يجب، مساعدة الطفل على رؤية الأشياء بطريقة مختلفة وتنمية عقله وإحساسه البصري، مع تحفيزه وتوجيهه وإمتاعه.

الطفل يختار

مُدرّسة الفنون المشرفة في المتحف وفي مركز الفنان ممتاز البحرة التربوي سمر كبتول أشارت إلى أن المدارس ومراكز الفنون تُتيح للطالب في مختلف الصفوف، اختيار ما يرغب، وفي حال لم يكن مهتماً بالرسم، يمكن توجيهه نحو العمل اليدوي باللاصق والمقص والخامات المتوفرة، تقول للمُدوّنة: "نشرح للطلاب كيفية طي وثني الورق الملوّن ليكون لدينا أشكال مختلفة، كذلك نستفيد من ورق الجرائد لعمل لوحات، أيضاً نستخدم الكرتون وأكياس الشيبس، يُمكن تلوينها والاستفادة من الطبقات التي تتكون منها عند تقشيرها، ويمكننا استخدام الثياب التي يتخلص منها الناس عادةً، نلعب على ألوانها ونوع قماشها، هكذا نُنمّي موهبة الطفل وفق ما يرغب العمل عليه".

عن أهمية مراكز الفنون التشكيلية، أكّدت كبتول أن العمل يبدأ منها، وهي الدعامة الرئيسية للمتحف، كما أنها مجانية وترفيهية، تُعلّم الطلاب (الرسم، العمل اليدوي "أوريغامي"، الصلصال، الخط العربي)، وتُقيم لهم معارض باستمرار، كما تعرض منتجاتهم عبر صفحاتها في فيسبوك، ومؤخراً بدأ مركز ممتاز البحرة بإقامة دورات مجانية لطلاب كليتي الفنون والعمارة ومعهد التربية الفنية.

تغيّر النظرة

مُدرّسة الفنون والمُشرفة في مركز الفنان عمر حمدي التربوي ولاء شريف أكّدت تغيّر النظرة لإعادة التدوير، من كونه محاولة للاستفادة من المواد التالفة والمرمية، نحو إنتاج مواد فنية لها قيمة جمالية، وأضافت للمدوّنة: "التدوير.. صنع شيء من لا شيء، اعتماداً على توالف بيئية لا قيمة لها، كالكرتون والقماش والبلاستيك، وفي مركزنا تحديداً قمنا بإعادة تدوير البقايا الخشبية من قص الليزر، حالياً أُعيد تدويره بلوحات فنية، وهنا تكمن فكرة إعادة النظر للاستفادة من المواد التالفة".

ولفتت شريف إلى أن الطلاب في المراكز يبدؤون بأعمال فنية بسيطة، من صنع خيالهم، لكنهم مع التشجيع والتدريب والتكريم بشهادات وجوائز، يُقدمون أعمالاً أفضل وأجمل، ويتعلّمون التجديد في الأفكار والمواد التي يتم اكتشافها خلال العمل.