حين بزغ فجر الثامن من كانون الأول 2024، لم يكن صباحاً عادياً في صافيتا وقراها، بل كان فجرٌ أعلن عن ولادة صفحة مُشرقة في تاريخ سورية، صفحة الحرية التي طال انتظارها، صفحة الانتصار بعد سنوات من الألم والمعاناة، صفحة اعتقد كثيرون أن بلوغها ضرب من المستحيل.
في ذلك الصباح، ارتسمت البسمة على وجوه الناس، وامتلأت القلوب بالفرح والفخر، وتحولت القرى والبلدات إلى مساحات تتنفس الفرح والذاكرة معاً. استعاد الأهالي أصواتهم وهم يرفعون الهتافات ويعلنون الاحتفال بالذكرى الأولى للتحرير، مؤكدين أن الوطن حين يتحرر لا يحتفل وحده، بل تحتفل معه القلوب الصابرة، التي ناضلت وآمنت، واحتفظت بالأمل رغم كل الظروف، قلوب حملت شعلة الحرية حتى أصبحت اليوم نوراً يهدي الطريق نحو المستقبل.
رسالة محبة وسلام
في مدرسة عين الجرن، ارتفع صوت الفرح عالياً في احتفالية وطنية جسّدت روح التحرير. وقالت مديرة الإعدادية مي عبد الله إن عين الجرن، رغم صِغَر مساحتها، كانت دائماً كبيرة بأبنائها من مثقفين ومعارضين ومناضلين وقفوا طويلاً في وجه الأنظمة البعثية الديكتاتورية، مشيرة إلى أن احتفال أهل القرية اليوم هو امتداد طبيعي لنضالٍ دام عقوداً طويلة.
وأضافت أن الاحتفالية جاءت عفوية، نابعة من طلاب نشأوا على مبادئ الحرية، يرون أنفسهم أبناء الثورة، لأن آباءهم وأجدادهم ذاقوا القمع والتضييق في عهد النظام السابق، وقد تعهّد هؤلاء الطلاب بمواصلة مسيرة النصر والمشاركة في بناء سورية الجديدة.
وأكدت عبد الله أن المدرسة لم تكن مجرد مكان للتعليم، بل «بيتاً ثانياً» يغرس في نفوس طلابه قيم العدالة والحق والانضباط، ويُرسّخ مبدأ المساواة أمام القانون، مشيرة إلى أن الكادر الإداري والتدريسي يعمل بروح واحدة لإعداد جيل واعٍ قادر على حمل مسؤولية الوطن.
وفي مشهد رمزي مؤثر، أطلق طلاب مدرسة عين الجرن حمامة السلام بحضور الأب وفيق عيسى، في رسالة أرادوا من خلالها مخاطبة العالم بلغة الأمل والمصالحة، والتأكيد على تطلعهم لمرحلة جديدة تطوي صفحة الظلم، ويعمّ فيها الأمن والسلام.
حضور يجسّد وحدة المجتمع
وشهدت الاحتفالية حضور عضو مجلس الشعب مي خلوف، ابنة عين الجرن وممثلة أبناء منطقة صافيتا بكل طوائفها، التي أكدت في حديثها ل"مدونة وطن" أن هذه المشاركة تعزّز روح الألفة والتآخي بين أبناء المنطقة، وتكرّس وحدة الشعب السوري بكل مكوّناته.
كما حضر الفعالية ممثلون عن الفعاليات الرسمية والشعبية، إلى جانب أهالي قريتي عين الحمرا وعين الجرن، في مشهد عكس تماسك المجتمع المحلي وتلاحمه.
وفي قرية سبّة، شارك القطاع الصحي في احتفالية عيد التحرير، بحضور شخصيات رسمية وشعبية، في تأكيد على إيمان العاملين في هذا القطاع بانتصار الحق على الظلم، وبقيم التعايش المشترك ونبذ خطاب الكراهية، ورغبتهم الصادقة في الإسهام ببناء سورية الجديدة.
كما شهدت قرية الكفرون في مبرّة الشيخ حسن – كفرون حيدر احتفالاً وطنياً واسعاً بعيد التحرير، حضره رجال دين ومخاتير ومدير ناحية مشتى الحلو، إلى جانب حشد شعبي كبير، اجتمعوا على معنى واحد: أن الوطن يتسع للجميع.
وقال الدكتور غياث علي، مدير المنطقة الصحية في مشتى الحلو، إن مشاركة مختلف المذاهب والطوائف في احتفالية عيد التحرير جسّدت وحدة النسيج السوري، وعكست حقيقة الإنسان السوري ورسالة المحبة والتسامح والسلام التي يحملها. وأضاف أن هذه اللقاءات قدّمت صورة صادقة عن التكاتف والانتماء اللذين يميزان المجتمع السوري في كل مناطقه.
وأكد أن المناسبات الوطنية، كعيد التحرير، تؤدي دوراً محورياً في ترسيخ ثقافة العيش المشترك، وكسر الحواجز النفسية التي حاول البعض زرعها بين السوريين، كما تشكّل محطات للحوار وتبادل الهموم والرؤى، وتحوّل الرمزية الوطنية إلى خطوات عملية نحو المصالحة، وتعزيز الثقة، والتمسّك بوحدة الأرض السورية، ورفض الأجندات الخارجية.
دعوة إلى التسامح وبناء المستقبل
وفي هذه الذكرى، ارتفع أيضاً صوت الكنيسة، حيث أكّد الأب يوسف سلوم أن يوم التحرير يشكّل محطة مفصلية تعبّر عن صمود السوريين وإصرارهم على بناء مستقبل أفضل، مشدداً على أن سورية، أرض الحضارات والديانات، كانت وستبقى نموذجاً للتنوع والعيش المشترك.
وركّز الأب سلوم في كلمته على أهمية التسامح والعفو لفتح صفحة جديدة تتجاوز آلام الماضي، وعلى ضرورة تعزيز وحدة الشعب السوري بوصفها صمّام الأمان لاستقرار البلاد، والحفاظ على السلم الأهلي، والعمل بروح جماعية لإعادة الإعمار وبناء سورية الحديثة القائمة على العلم والعدالة والمساواة.
واختُتمت الرسالة بالتأكيد على أن ذكرى التحرير يجب أن تكون نقطة انطلاق نحو مستقبل مشرق، تُصان فيه وحدة سورية، ويعمّ السلام والازدهار جميع أبنائها.
تعزيز ثقافة الحوار
وفي السياق ذاته، احتفلت مدرسة الشهيد فؤاد نصار في الكفرون بهذه المناسبة، حيث وجّه الأب يوسف سلوم كلمة إلى طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية، مؤكداً أن التحرير لا يقتصر على استعادة الأرض، بل يشمل تحرير العقول.
ودعا الطلاب إلى التمسك بالعلم والمعرفة، والبحث عن الحقيقة بعقول منفتحة، ونبذ الأحكام المسبقة، وتعزيز ثقافة الحوار وتقبّل الرأي الآخر باعتبارها أساس النضج الفكري وبناء المستقبل.
كما أحيا المركز الثقافي في صافيتا الذكرى السنوية الأولى لعيد التحرير باحتفال موسّع جمع بين الطابعين الثقافي والفني، بحضور رسمي وشعبي تقدّمه مدير العلاقات العامة محمد طويل، وعضو مجلس الشعب مي خلوف، ومدير الأمن، إلى جانب حشد كبير من أهالي المدينة وريفها، في مشهد اختصر معنى أن التحرير ليس نهاية الطريق، بل بدايته.
