كثيرة هي الأماكن الأثرية التي تحتوي على شواهد تؤرخ لزراعة أشجار الزيتون والكرمة في منطقة "جبل العرب" وفي "حوران" عموماً ويمكن الاستدلال على ذلك من التنقيبات الأثرية والتي أكدت وجود بقايا لمعاصر الزيتون والعنب في المنطقة تعود بتاريخها لحقب زمنية متنوعة.

معاصر الزيتون

وحول أهم الدراسات الأثرية والتنقيبات يوضح الدكتور "خالد كيوان" الباحث في الآثار ومدير فرع الجامعة بالسويداء لموقع "مدونة وطن eSyria"، أن الدراسات التاريخية تشير إلى انتشار زراعة الزيتون شمال (سورية ولبنان) من القدم، حيث قام الفينيقيون بنقل زراعتها إلى بلاد "اليونان" ومنها إلى "إيطاليا"، وكان لزيت الزيتون في ذلك الوقت عدّة استخدامات منها إضاءة المصابيح ليلاً، إلى جانب كونه مادة غذائية ووجبة رئيسية، وأيضاً استخدم كمراهم طبية علاجية وعطور وروائح ذكية، كما استخدم لبّ الزيتون من القدم طعاماً للحيوانات ووقوداً بعد جرشه، وهناك بعض الدلائل الأثرية غير الكافية على وجود الزيتون في جبل العرب، فقد عثر من خلال التنقيبات الأثرية على مدقتين اثنتين مستديرتين للزيتون إحداهما في "قنوات" والأخرى في "عاسم باللجاة".

ويتابع "كيوان" حديثه بالقول: "لا بدَّ أن نذكر معاصر الزيتون التي عثر عليها في "خربة الذريج ووادي موسى ووادي عربة بالأردن"، حيث عثر بالأخير على مكبس معصرة زيتون تؤرخ إلى القرنين الأول والثاني الميلاديين، وبحكم قرب هذه المناطق من جبل العرب وحوران، فمن الممكن أن تفنّد نظرية أنَّ المنطقة لم تعرف زراعة الزيتون، ويمكن الاستدلال بما قاله "الإدريسي" والذي وصف جنوب بلاد الشام ولا سيما جبال الشراة بأنها غاية في الخصب، حيث تكثر فيها أشجار الزيتون واللوز، والكروم والرمان".

الأستاذ الدكتور خالد كيوان

زراعة الكرمة

الباحث الاثري حسن حاطوم

أما أشجار الكرمة يشير الباحث "كيوان" إلى أنها شكّلت الإنتاج الأساسي لمنطقة جبل العرب ومن ثمار العنب وجد النبيذ والزبيب، ومعظم ما عثر عليه من دلائل أثرية جاءت من بيوت قرية "سيع" بالقرب من "قنوات"، وكانت عبارة عن بذور العنب المتفحمة، كما عثر على جرار كبيرة في كهف كانت مخصصة لحفظ النبيذ، وتعدُّ أهم الدلائل الأثرية والتاريخية على زراعة العنب في جبل العرب.

ويضيف: "أشارت الدراسات إلى حتمية وجود أشجار الكرمة في المنطقة منذ بداية الفترة الرومانية وبالتحديد في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، وقد أشار إلى ذلك أقدم نص يوناني جاء على قاعدة تمثال من خلال تنقيبات موقع "سيع" لا سيما في منطقة المعبد الكبير "بعلشمين"، حيث يذكر المنطقة وحوران كجبل مغطّى بأشجار الكرمة التي بنيت كمصاطب، كما وجد كتابات يونانية من القرن الثالث الميلادي تذكر حماية غرسات الكرمة ونسبت إلى ملف زراعة الكرمة الحورانية، كما عثر على مثل هذه الكتابة في منطقة "جرش" خارج حوران، وهناك مسكوكات من "بصرى" يُعتقد أنّها حملت على أحد وجهيها معصرة عنب".

لوحة لعصر العنب

وينوه "كيوان" إلى أن جبل العرب كان ودون شك مغطى بشجيرات الكرمة التي انتظمت في المنحدرات المعمولة بشكل مصاطب متدرجة، حيث حدد كملكيات خاصة تفصلها عن بعضها جدران ذات حجارة صغيرة، بينما كان أسفل الوديان مغطى بالحجارة والرُجم المستديرة أو المربعة تبدو أنها ناتجة عن عزالة الأرض والتقسيمات الزراعية للحقول وتعود إلى ما قبل العصر الروماني، وأثبتت الحفريات في "سيع" وجود بقايا نباتية لبذور العنب في المنازل يرجع تاريخها إلى القرن الثالث الميلادي، ولدى دراسة الأبنية تبيّن أنَّها تمتلك طابق تحت الأرض عبارة عن قبو يبدو انه استخدم كمخزن أو مستودع لتخزين جرار كبيرة ضخمة مصنوعة من الفخار الأحمر المحلي".

تقاليد قديمة

من جهته يبين الباحث الأثري "نايف الجباعي" أن بعض الدراسات التي أجريت على تحليل بذور العنب، وتعود للعصرين النبطي والروماني، أن تلك البذور تنتمي لشجيرات العنب البرية وبعضها من بذور شجيرات عنب قريبة من البرية، والأهم بأنَّ تلك الدراسة أكّدت على أنَّ البذور لا تنتمي للأنواع المتواجدة حالياً، بالإضافة إلى النصوص الأثرية التي ذكرت الكرمة وإلى البنية المعمارية وبقايا بذور العنب، وكانت المعاصر من الأدلة القوية التي تؤكد حتمية زراعة الكرمة في الجبل وعلى مساحات شاسعة، حيث كشفت المسوحات وأعمال التنقيب في "سيع" عن معصرة تتألف من بناء منظم البنية يحتوي على باحة مركزية مبلطة وبجانبها خزانات لتستوعب عصير العنب، كما احتوت على برج للمراقبة خصص لفيلق يتمركز من "سيع" إلى "قنوات" وحتى مركز الجبل.

ويوكد "الجباعي" أن تقاليد عصر العنب في المعاصر مستخدمة منذ الفترة الأموية وذلك من خلال الكشف عن معصرة في "سيع" وهي الوحيدة من الفترة الأموية، ويُظن أن العنب لم يستخدم فقط كنبيذ بل هناك ما يدعو للاعتقاد أنَّه كان مستهلكاً كزبيب أو عنب جاف يقدم على الموائد، أو معصور كعصير تحت شكل الدبس، وما يمكن ذكره هو تصدير النبيذ من حوران وجبل العرب نحو مناطق مجاورة، ومنها عبر

البحر المتوسط أو شبه الجزيرة العربية، وهي المكان الأمثل والأكثر نشاطاً وقوة ومساهمة من القرويين في حوران لتشجيع التبادل التجاري بين بلاد الشام والعالم القديم آنذاك.

الباحث الأثري "حسن حاطوم" رئيس دائرة الآثار الأسبق في "السويداء" يشير بدوره إلى ما فعله الإمبراطور "دوميتيانوس" في نهاية القرن الأول الميلادي، عندما أمر بقطع أشجار الكرمة في الولايات الرومانية، غير أنَّه يُشك في أمر هذا المرسوم بأنَّه نُفِّذ بحذافيره، ففي عام 261 ميلادي وبأمر من الإمبراطور "بروبوس" تمَّ إلغاؤه وسيطرت زراعة الكرمة على اقتصاد جبل العرب.

ويشير "حاطوم" إلى لوحة فسيفساء "دير العدس" المكتشفة في عام 1961 في محافظة "درعا"، وهي تصوّر موضوعات مستوحاة من الحياة الاجتماعية والنشاط الريفي في الزراعة والصيد، وهي تحتوي مشهداً لقافلة جمال وآخر لقطاف العنب، وتؤرخ إلى العصر البيزنطي من العام 767م..