بهدوء تلك الجبال الراسيّات من حوله؛ يُنجزُ الفنان التشكيلي حسن حلبي مشروعه الفني، ك"زيتونة أوغاريتية" تُعطي دون حساب مستفيداً من كل ذلك العمق البعيد لفينقيا القديمة، ومستلهماً من منهل مثولوجيتها الغنية ليبني عمارته التشكيلية التي أكثر ما برزت في النحت.
في أزقة اللاذقية
ففي مشهد النحت السوري، حيث تتقاطع الحضارات القديمة مع الوجدان المعاصر، يبرز اسم الفنان والنحات حسن حلبي كأحد الأسماء التي تشكّل اليوم ذاكرةً بصريةً وإنسانيةً مستقلة في فضاء الفن التشكيلي.
وحسن حلبي (1960) ابن اللاذقية، الملقب بـ"زيتونة أوغاريت"، حيث تشكلت من طبيعتها ملامح وعيه الفني، فكانت البيئة بمكوناتها مصدر إلهامه الأول. وهي الغنية بالمكونات الطبيعة، وبذاكرة أوغاريت، وقد اختار لتجسيد كل هذا الغنى الوجودي الخشب والنحاس وسيطين للتعبير عن قضايا جمالية وفكرية بحثية، مطوّعاً المواد الخام بروح فلسفية ونَفَس حداثي أصيل.
المواد الخام بين الروح والتكوين
يُعتبر الخشب المادة الأثيرة لدى حسن حلبي، ولا سيما خشب: الزيتون، الجوز، والعِنّاب. وهذا الاختيار ليس عشوائياً، بل مرتبط بعمق بالنسيج الجغرافي والرمزي لبلدته، حيث يُشكّل الزيتون شجرة الحياة، وشاهداً على البقاء في وجه الحروب والزمن.
ما يميز تجربة (حلبي)؛ هو المزج الفريد بين تقنيات النحت التقليدية وروح الفن المعاصر. فهو لا يكتفي فقط بتطويع الخشب ككتلة صلبة، بل يُحيلها إلى كائنات ناطقة، محمّلة بالدلالات الرمزية. وأعماله ليست مجرد تشكيلات زخرفية، بل لغة بصرية متكاملة تنبض بالأسطورة، الذاكرة، والوجود.
في أعمال مثل "زيتونة أوغاريت"، و"عشتار حارسة أوغاريت"، و"ولادة سوريا"، يبدو الأسلوب النحتي لحلبي منحازاً إلى المدرسة الرمزية السريالية، مع انزياحٍ نحو الواقعية التعبيرية.
ثلاثية أسلوبية
ويقوم أسلوب حلبي في التكوين على ثلاثية أساسية: الكتلة العضوية المتوازنة، حيث يوازن بين الفراغ والكتلة، ويحرص على إبقاء الحياة في الشكل. والخطوط الانسيابية الحيّة: حيث تشكّل البُنية الحركية للأعمال، بما يشبه "انسياب الموسيقا" على السطح النحتي. ومن ثمّ التكوين المفتوح: حيث تبدو أعماله غالباً مفتوحة بصرياً ونفسياً، وتستدرج المتلقي إلى تأويلاتها المتعددة.
كما تتعدد الخامات وإتقانها: فهو لا يقف عند حدود الخشب، وإن كان أبرزها، فهو يتقن النحت على الخشب: خاصة خشب الزيتون والجوز والعناب، مستفيداً من قساوة الأولى وحرارتها اللونية، ونعومة الثانية وسهولة تشكيلها. وكذلك النحت على الحجر: حيث يستخرج من الصلب ليونة، ومن الثابت حركة. ومن ثمّ الضغط على النحاس، محولاً ألواح النحاس إلى لوحات تحكي قصصاً وأغاني، خاصة أغاني فيروز. وفي الرسم؛ فقد أتقن الرسم بالقهوة، إذ يستخدم رواسب القهوة لإنشاء لوحاتٍ ذات أبعادٍ لونية وروحية عميقة، مستخدماً ما يعرف بـ "الجرافيك بالقهوة".
أما ملعبه الأوسع فكان في تفاصيل الكتل النحتية وعلاقتها بالفراغ: إذ يتعامل حلبي مع الكتلة باحترامٍ كبير، فهو لا يجبرها على الشكل، بل يستخرج منه، فتُظهر منحوتاته فهماً عميقاً للعلاقة بين الكتلة والفراغ المحيط بها، مما يخلق حواراً بصرياً وجمالياً.
وفي المدارس الفنية والتجريب: لم يقتصر على مدرسة واحدة، بل يمسك بخيوط هذه المدارس من أطرافها مشكلاً بصمته من خلالها، من الواقعية إلى السريالية والتجريدية. مُقدماً فلسفته للوصول إلى الصورة المثلى، ما جعل له أسلوباً مميزاً يصعب تصنيفه.
روح أوغاريت
ومن المضامين التي اشتغل عليها الفنان حلبي في أعماله التشكيلية، يُمكن أن نوجزها بما يلي: التراث والحضارة الأوغاريتية: هو المحور الرئيسي، كما في عشرات الأعمال النحتية التي أنجزها منها: "عشتار حارسة أوغاريت" و"رحلة عشتار" و"زيتونة أوغاريت"، حيث يستحضر رموز المملكة القديمة (الأبجدية، الآلهة، الموسيقا) ليجسدها في أعمال معاصرة.
أما الموسيقا وصوت (فيروز) فقد جسده في سلسلة أعماله النحاسية المستوحاة من أغاني السيدة فيروز مثل "نحنا والقمر جيران"، و"سنرجع يوماً" مُشكلاً مشروعاً فنياً مستقلاً، حيث يُحول الكلمة واللحن إلى صورة بصرية ناطقة..
سوريا الحاضرة دائماً
وفي عمله بعنوان "سوريا: الماضي والحاضر"، المنحوت من الخشب بارتفاع 120 سم، حيث يتحول الخشب اليابس إلى أيقونة حياة، تُجسَّد الحياة المتجددة لسوريا عبر رمزية البعث من الرماد. وهذا العمل عُرض أمام حديقة البطرني في اللاذقية، والذي كان بمنزلة إعلان رمزي لعودة الروح إلى الجسد السوري.
من هنا فهوية حسن حلبي النحتية تتجذر في بيئته السورية، ولاسيما في الساحل، وفي أغاني فيروز، وفي رمزية الأم والمرأة، وفي الأسطورة الأوغاريتية. يقول عنها في حديثه لمدونة وطن : هذه الهوية ليست مجرد مضمون، بل شكلٌ وجمالياتٌ وتقنية.
فتظهر المرأة، كمثال، في كثير من أعمالي الخشبية، لا بوصفها جسداً، بل رمز للخصب، للصمود، وللحياة. "عناق البجع" مثلاً، هو عمل نحتي من خشب الزيتون، يحمل دلالة مزدوجة: الحب والانسجام.
منحوتات الخشب: روح أوغاريت
يذكر الفنان حلبي إنّ: "الخشب بالنسبة لي ليس مجرد خامة، بل كائن حيّ أحاوره وأصغي إليه". هذه العبارة تلخّص جوهر فلسفته الفنية، فأعماله ليست نتائج تصميم مُسبق بقدر ما هي تفاعلات وجدانية مع المادة، وهو يُصغي للخشب، يقرأ عقده، ويستنطق شروخه، ثم يُعيد تشكيله ليصبح شاهداً بصرياً على الإنسان والطبيعة.
وفي أعماله الخشبية، يمكن تلمّس أثر الحضارة الأوغاريتية في الرموز المحفورة بدقة، وفي الأسماء المختارة (عشتار، حمامة السلام، قمح الوطن)، وحتى في النَفَس الموسيقي البصري الذي يحاكي إيقاع الأبجدية الأولى.
أعماله في الداخل والخارج
وعن مشاركاته يقول حلبي: شاركت في أكثر من ثلاثين معرضاً فنياً، من بينها عشرين داخل سوريا. أما خارجياً، فقد عرضت أعماله في فرنسا، إسبانيا، تركيا، لبنان، روسيا، اليمن، الإمارات، وأمريكا. واليوم أعماله النحتية تقيم في الساحات والمعارض، كما تقيم في الذاكرة، لأنها أعمال متصلة بالوجدان لا بالموضة الفنية.
نحتُ الحياة من رماد الحرب
من هنا فحسن حلبي ليس مجرد نحات، بل صانع ذاكرة، وحكاء بصري، وبنّاءُ هوية. في عالمٍ مضطرب يُمزّق الفن أحياناً بين النزعة التجارية والسطحية.. يقدّم حلبي تجربة نحتية متماسكة، متجذّرة في التراب السوري، ومستشرفة للسلام عبر جماليات الخشب ونبض النحاس. وتنتمي أعماله إلى زمن الإنسان قبل أن تنتمي إلى أي مدرسة، وهي تُذكّرنا أن الفن العظيم لا يحتاج صخباً، بل صدق. إنه بحقّ، كما تحدث عنه الكاتب غسان القيم والذي وصفه : "ابن الحضارة، وعاشق أوغاريت، وفنان لا ينضب عطاؤه.