يلعب الغناء دوراً مهماً في تنمية وإظهار القدرات الجسمية والعقلية التي يتمتع بها الطفل، كما يتصل ويتعرّف الطفل على عالم اللغة الغني من خلال تلك الأغاني البسيطة، ورغم ذلك لم تهتم الساحة الفنية العربية بهذه الأغنية إلا من بعض التجارب القليلة، بينما ظهر بعضاً منها في "سورية" خلال السبعينيات والثمانينات لتغيب خلال الفترات السابقة كلياً.

ذكريات باقية

يربط "عاطف صقر" وهو ملحن وشاعر وكاتبُ أغاني، هذه الإشكالية بسيطرة العقلية المادية على زمام الأمور حيث يقول: «بطريقة تصاعدية غلبت العقلية المادية البحتة على نشاطات وأفكار العاملين في القطاع الفني والإعلامي، ولم تعد الغاية النبيلة أو المستوى الفني مهمة إلا بالقدر الذي تدر فيه الأرباح، وتالياً طغيان موجات من الأغاني الهابطة ولعل أكثر الأغاني تضرراً هي تلك الموجهة للأطفال».

لقد حاولت شخصياً المساهمة في هذا المجال فكتبت ولحنت عدة أغانٍ لهذه الشريحة، كما كتبت حلقات كرتونية لكن الصعوبات الإنتاجية والترويجية حاضرة بقوة كحجرات عثرة أمامنا

ويذكر "صقر" بعض التجارب التي كان لها أثر جمالي على الطفل: «منذ أن أطلق "محمد فوزي" أغنيتيه "ماما زمانها جاية" و"طلع الفجر"، نشطت موجة أغاني الأطفال وكانت بمعظمها تنتج لنبل الغاية، ورأينا بعض التجارب أيضاً في سورية كتجربة "ريم البندلي" مثالاً، وظهرت الكثير من البرامج والأعمال الدرامية والكرتونية الموجهة للأطفال، إضافة للكثير من المجلات المتخصصة، كما دعم ذلك وجود جيل من الكتاب والشعراء عمل على الأمر كقضية تربوية إنسانية تثقيفية، فكانت أغاني جميلة كأغاني العمل العربي المشترك "افتح يا سمسم" مثالاً، والتي لا تزال راسخة في الوجدان، وكان التمويل يأتي في معظم الحالات من المؤسسات الرسمية».

للفنان ممتاز البحرة من الذاكرة

الرّبح أولاً

ريم البندلي وأداء أغنية غسل وجك ياقمر

ويعتقد "صقر" بأنه في الظروف الراهنة يعد الإنتاج الموجه للأطفال ضرباً من ضروب المغامرة غير مضمونة النتائج بالنسبة للمنتج، لأن شريحة الأطفال هي الأقل قدرة مادية، كما أن تكاليف الإنتاج ارتفعت بشكل مخيف، يضاف إلى ذلك أن افتتاح قنوات للأطفال على الإعلام بمختلف أشكاله يعتبر الأقل ريعية، وكل ذلك أدى إلى تراجع مؤسف في أغنية الأطفال، وإن وجدت فغالباً تطغى عليها السطحية والضعف الفني والفكري والاجترار.

وينهي حديثه قائلاً: «لقد حاولت شخصياً المساهمة في هذا المجال فكتبت ولحنت عدة أغانٍ لهذه الشريحة، كما كتبت حلقات كرتونية لكن الصعوبات الإنتاجية والترويجية حاضرة بقوة كحجرات عثرة أمامنا».

من برنامج افتح ياسمسم

وتتفق معه "أحلام ديب" وهي مغنية، حيث تؤكد بأن ضعف الإنتاج أدى إلى قلة هذه الأغاني، والمنتج همه الربح السريع، وهذا لا يأتي إلا من المواضيع خالية المضمون.

الاستسهال والفوضى

في عصرنا الحاضر وما يتمتع به من تقنيات إعلامية هائلة وواسعة الانتشار، نجد الأطفال يتأثرون تأثيراً كبيراً لا يمحى بأغاني الكبار التي تقدم لهم في البيت والشارع ووسائل النقل والإعلام، وكل ذلك يتم في زمن غابت فيه أغنية الطفل المعبرة عنه والمناسبة لعمره وإدراكه، والتي تبرز عالم الطفولة وتتضمن في موضوعاتها بيئة الطفل، مع التركيز على الهدف العلمي والتربوي في آن واحد، إضافة على اللحن البسيط والجمل القصيرة المشوقة ذات الإيقاع الرشيق.

وهنا تجد المغنية "شذى الحايك" خريجة المعهد العالي للموسيقا، بأنه هناك أكثر من جانب له تأثير سلبي على سوية أغاني الأطفال منها الجو العام والاستسهال والفوضى الذي تثيره وسائل الأعلام بمختلف أشكاله.

وتتابع: «أيضاً وجود بعض القنوات التي تقدم أعمالاً سطحية ومستوى ثقافياً متدنياً وهمها الوحيد هو الربح المادي حتى لو كانت تستغل عواطف البعض، وفي "سورية" هناك إنتاج ضعيف وربما معدوم من ناحية الطفل، إضافة إلى ثغرات كبيرة في المنهاج التعليمي وكل هذه الأشياء تؤدي إلى عدمية أغنية الطفل».

غياب لثقافتنا

لأغاني الأطفال تأثير عميق على الطفل وسلوكيته، فهي تنمي وجدانه، وتفتح آفاق عقله على عالم كبير ومدهش تبرز فيه خصوبة عالم الطفولة، فيبتعد الطفل بذلك عن كل ما هو شاذ وقبيح يمكن أن يعترض حياته الجميلة، والأطفال مع كل أسف لا يجدون ما يغنونه مما هو موجه لهم نتيجة لعدم وجود ما يجذبهم، فيرددون ألحان الإعلانات، والدعايات التجارية التلفزيونية وغيرها من أغاني الكبار، وهي على كل حال في حاجة إلى إعادة نظر فكري وفني.

تربط "هيا الشمالي" وهي مغنية خريجة كلية "حمص" للموسيقا، اندثار أغنية الطفل بانشغال وشغف الأطفال بالشبكة العنكبوتية وارتباطهم بأغاني الروك والراب البعيدين عن ثقافتنا، ولا تستثني آثار الحرب حين تقول: «للحرب على "سورية" تأثير واضح على مستوى الثقافي الجمعي وأيضاً على المستوى التعليمي، إضافة إلى غياب الشاعر المتخصص بكتابة أغاني الأطفال ومثله الملحن الذي اتجه إلى الأغاني السائدة ذات السورية المتدنية شكلاً ومضموناً».

خطوات ضروريّة

تضع المربية والموسيقية "إلهام أبو السعود" يدها على الجرح عندما قدمت ورقة عمل في إحدى دورات مؤتمر الموسيقا العربية، ذكرت فيها بعض الخطوات لعودة أغاني الأطفال إلى الساحة الفنية، نقتطف منها: «لابد أن يفسح المجال العلمي لمدرّسي المرحلة الابتدائية والمتوسطة الموهوبين والمبدعين ليقدموا ألحانهم وكلماتهم التي تكون غالباً ذات تأثيرات تربوية من خلال وسائل الإعلام، بعد أن يتم صقلها وتقديمها بمساعدة المختصين، وتأكيد أجهزة الإعلان المرئية والمسموعة على دور التراث الشعبي الطفولي وألعاب الحارة، ذلك بطلبها من الشعراء وكتّاب الأغنية أن يتناولوا ذلك تناولاً عصرياً مدروساً».

وتتابع في ورقتها: «يجب السماح للمبدعين من الدارسين المختصين بالتركيز على التلحين للأطفال وقيادة فرق الكورال المدربة وفتح المجالات الإذاعية والتلفزيونية لهم، فضلاً عن تعميم إقامة مهرجانات خاصة بأغنية الطفل في مختلف أقطار الوطن العربي، على غرار مهرجان أغنية الطفل الذي أقيم في "الأردن" على مدى ثلاث سنوات».