تُجسد راوية زاهر بكامل حضورها نموذج الكاتبة المتعددة، التي لا تكتفي بإتقان نوع أدبي، بل تمضي إلى حدود أبعد، حيث تتقاطع الأجناس ويولد النص من رحم الحياة، لا من عبثية اللغة.

منذ المرة الأولى التي وعت لوهج الشمس، وأضاء النور ما حولها؛ وجدت أنّ كلَّ ما يُحيط بها يدعو إلى موائد الشعر، هنا في (ألتون المرقب) التابعة لناحية (تالين) في ريف بانياس، ومن هنا ربما كانت كل هذه المحفزات مع دراسة الأدب العربي في الجامعة دفعت ب(راوية زاهر) لأن تتعلق بحبال الشعر من أطرافه كلها: الموزون، التفعيلة، قصيدة النثر، وحتى الشعر المحكي..

" في هذا الأفق الممدّدِ

على طول جثتهِ؛

يزاولُ الراسخُ في يقينه

مهنة النسيان،

ويتأرجحُ بابُ الذهول

بكامل بلادته

جيئة وذهاباً

كانت الشاعرة أشبه بمهندس ديكور يحرص على إبراز الجماليات البصرية

من مؤلفات راوية زاهر

ورواية لم تكتب القصيدة وحدها، بل اتخذت أيضاً المنحى النقدي في قراءتها، وكان لها مئات المقالات، وهي تُقيّم في ديوان الشعر السوري على وجه الخصوص، وتجارب في ديوان الشعر العربي بشكلٍ عام، وبعض ما تُرجم من شعرٍ إلى العربية.

ففي مجموعتها الشعرية (عاريةٌ سيقانُ هذا المساء)؛ تضعُ زاهر قارئها مباشرة في مناخات دهشة التراكيب الشعرية، وذلك بعد مهارة استخدام تقنية "الانزياح" في تراكيب جديدة، حيث للمساء "سيقان"، وهي عارية رغم جناحه الأسود.. هذا التركيب الشعري الذي استخدمته الشاعرة كبوابة دخول لفضاءات المجموعة الشعرية، كانت أشبه بمهندس ديكور يحرص على إبراز الجماليات البصرية في محاولات الشغل على غوايات الجذب والدخول

الناقد مصطفى شقرا

"نامت القصيدةُ في كوخٍ بعيد،

كأنّها الحلمُ

وأنا الشريدُ..

أغمضتْ عينيها باللقاءِ حالمةً،

مرجعيتها الطبيعة الجميلة

ولم تستشعرْ أبداً ذاك اللهيب..

الغابةُ كلّها صارت رماداً

ووحيدة هي في لظى الحريق.."

تقنية (الانزياح) كبلاغة حديثة في الكتابة الأدبية، وتعني سحب مفردات اعتدنا أن نجدها في سياقات سردية محددة، هنا استطاعت الشاعرة أن تجد استخدمات بلاغية أخرى لهذه المفردات في تراكيب جديدة، وهو ما يُساعد في اتساع العبارة التي أشار لضيقها (النفري) ذات حين من النقد القديم، هذه التقنية التي كثيراً ما كانت ساحة للعبة زاهر الإبداعية، إضافةً لتقنيات بلاغية أخرى حديثة غير "التشبيه والاستعارة والكناية.." مثل الإضمار والإخفاء، وإفعام النص بالرمزية.. وهي جميعها ساعدت في سعة العبارة، واخضرار شجرة الفكرة بكلِّ هذه الأغصان الوارفة من التأمل والتأويل، وهو ما يمنح النص المساحة الواسعة للسردية.. وربما من هنا نتفهم ذهاب الشاعرة صوب فضاءات الأدب الوجيز بانواعه كافة: القصيدة القصيرة جداً، وكذلك القصة القصيرة جداً، وحتى مقاربتها لمناخات: الهايكو والنانو وغيرهما التي سمتها قُصارى القول..

"قال لها:

سأراودكِ عن صمتك،

وأصنعُ منكِ معجزةَ السّرائر

المتربصة بين قبائل الفزعِ والموج النّيء

النّابت كشاربٍ أبلهَ

على وجه هذا الشرق

مرجعيتها الشعرية العالية مكانٍ ريفيٍّ ناعس على سفوح جبال بانياس

وهنا تتحدث عن تجربتها في كتابة القصة القصيرة جداً، فتقول لمدونة وطن: رغم إظهار الحكائية في نص القصة، وكذلك إبراز الحدث والإخبار، غير أنني في كل ما كتبت بما فيه الشعر المحكي، كانت مرجعيتي ذاتها؛ الشعرية العالية التي تشربتها من مكانٍ شاعري ريفيٍّ ناعس على سفوح جبال بانياس، ودراسة أكاديمية كانت لها مكاييلها النقدية وهي تزين النص بتوءدة الصاغة في موازينهم ذات الدقة في معايير الغرامات.

كلّ ذلك أول ما نتلمسه في عناوين نصوصها، سواء كانت شعرية أو قصصية: "أطراف البياض، أمنيات فاغرة الفم، الموت الآبق، الوهم النيء، الروح الهرمة، حنجرة الوقت، فراغٌ ممتلئ، أكتاف المدينة، ألفُ ليلةٍ وسرداب، معطف من رمل، كمائن المواعيد.." وغيرها الكثير من العناوين – العتبات التي تدعو المتلقي للتأمل والتاويل، ومن ثمّ الذهاب معه صوب متع جمالية بلاغية، ترسمها الشاعرة بالكلمات مشاهد موحية.. فالتكاوين اللونية التي يستخدمها الفنان التشكيلي في مشاهد البصرية، كثيراً ما قاربتها زاهر بالكثير من التكاوين والألوان في مدونة السرد، فللمدينة عندها أكتاف، يُمكن للمرء أن يستند إليها، والمعطف لديها ليس من حريرٍ أو مخمل، وإنما قُدَّ من رمل، وكذلك للوقت حنجرة، ومن ثمّ بإمكانه المحادثة والنداء، وغيرها الكثير من رسم المشاهد البصرية من خلال لعبتها اللغوية في صناعة التراكيب ونحتها

"عندما أقول لك لا أغار؛

فأنا كاذبة،

كاذبةٌ جداً..

أغار منها، ومنهن،

ومن كلّ الأشياء..

من كل تاءات التأنيث،

المفتوحة والمعقودة..

الأصلية منها، وحتى تلك الزائدة

جمعت بين الصورة الشعرية المكثفة والنبرة الثورية الغاضبة

نصوص رواية زاهر كما اضافت، وفي أي نوعٍ أكتب فيه من شواغلي الإبداعية، كثيراً ما تأتي محمّلة بدلالات رمزية قوية ومعانٍ سياسية وإنسانية عميقة، أجمع من خلالها بين الصورة الشعرية المكثفة والنبرة الثورية الغاضبة، معتمدةً في محطات كثيرة على المفارقات المؤثرة.. نصوص سمتها الكربلائية حيث الحزن الطافح كزبد الموج عند الشواطئ، والخيبة التي تعتصر الروح المحجوزة في الحيز الضيق دائماً.

هنا يأتي النص كسفينة نجاة، وقصيدة نضالية رمزية تختلط فيها الروح الثورية بالألم الوجودي. ولا تنسى أن توظف فيه الطبيعة والرموز الزراعية كحقول دلالية للمعاناة والمقاومة. إنها نصوص تكتبها بمناخات الانتماء والحزن الجمعي بلغة مكثفة وعاطفية.

صوت يحمل في نبرته جرأة الكشف وصدق المعاناة ولذة الألم

الناقد مصطفى شقرا يقول: "ليست راوية زاهر مجرد كاتبة تُجيد اللعب بالكلمات، بل هي صوت أنثوي متفرّد، يحمل في نبرته جرأة الكشف وصدق المعاناة ولذة الألم. وفي كتابها الشعري "سيقان عارية هذا المساء" حيث تعري الكون من كلِّ أكاذيبه وخدعه وخياناته، وتزج به في غرف الاستجواب والتحقيق، كما تفتحُ لنا نوافذ تطلُّ على عالمٍ داخليٍّ نابض بالتوتر والرغبة والانكسار، والبوح الصادق المعجون بالأسى والمعاناة، وتكتب قصائدها كأنها اعترافاتٌ مجروحة تُدوَّن على سطور اللغة، أو ندوبٌ على جسدِ الكلمات."

ويُضيف: هذا العمل هو طقس من البوح المكثف، وجرأة الفكرة وسفر الأسئلة، تمارس فيهم الكاتبة شعرية النسج والحياكة، وتستحضر فيه الأنثى لا بوصفها موضوعاً، بل ذاتٌ ناطقة عن الحياة والوطن والعالم والمحيط، فهي كيان يحكي، ويتألم، ويتمرّد، ويشتاق. لغتها مشحونة، ودقيقة، ومواربة في آن، تتقاطع فيها الحسية بالفلسفية، والسرمدية بالسوريالية والهمس بالصرخة والضوء بالعدم.. ومع هذا فزاهر ليست أسيرة القصيدة، تجربتها في القصة القصيرة جداً كشفت عن وعي فني بالغ، حيث يتجلى اقتصاد اللغة كقوة تعبيرية قادرة على اختزال المعنى دون أن تجرّده من عمقه.. نصوصها القصصية ومضات بارقة وتختزن طاقة تأويلية مضيئة، لكنها ليست عابرة؛ توقظ في القارئ دهشة كامنة، وتتركه أمام علامات استفهام غزيرة لا تنتهي.

أما في مجال النقد، فتمارس دورها بمسؤولية المثقف والمدرك لا سلطة المتعالي. تكتب بعين المجرّب والحكيم، وذائقة العارف، وتحلل النصوص لا لتُدينها بل لتعيد تأملها. نقدها يُشبه مرآة نزيهة، لا تجمّل ولا تقسو، بل تسعى لفهم ما وراء الظاهر، ولحوار متكامل مع النص، فحين يدخل كتاب إلى مصنعها النقدي، يخرجُ مؤنقاً بأبهى حلة، إلى درجة استغراب الكاتب من كتاباته فهي تجعل ما كتب باهراً..