"غافياً كان البنفسج"، وكأن ثمة أحداثاً جرت، وحكايات سُردت، خلال غفوته، حكاياتٌ تنوسُ ما بين الفرح والحزن، وعندما استيقظ وجدَ كلَّ هذه المرويات من النصوص – الحكايا، التي تُماهي، أو تطوي المسافةَ بين تناقضات البنفسج ومخاتلاته من حزنٍ وفرح.. وربما قد يسأل قارئ: وماذا لو كانَ البنفسجُ صاحياً؟!!
ف" اللّيلُ الطَّويلُ
نِعْمةٌ
لِمَنْ يُتْقِنُ النَّومَ وَحيْداً."
بتلك العتبتين؛ تبدأ الشاعرة أريج سعود "نصوص" إحدى مجموعاتها الشعرية"غافياً كان البنفسج"..
هكذا تطلق عليها (نصوص) كمفردة مُخاتلة هي الأخرى تُقارب، أو تُعادلُ مُخاتلة البنفسج، بمعنى دون أن تمنح جنسية النوع لنصوصها، بل تتركها تُناوشُ مختلف الأجناس الإبداعية، وهو ما يوفر للنص الكثير من حرية القول والانفتاح رغم الحالة الشعرية العالية التي تُلقي بوشاحها عليها، وذلك بتوفيرها مُشابهات في الكثير من انعطافات النصوص مع حالاتٍ إبداعية أخرى، لعلّ أبرزها (الحكائية) وهي حالةٌ واضحة من السرد
وهذا البناء الشعري له مرجعيته عند الشاعرة سعود، التي عرفت عن نفسها خلال حديثها مع مدونة وطن قائلة: أنا مهندسة عمارة، و من جارة البحر (طرطوس)، ولدي الكثير من التجارب والتخويض في جنس القصة القصيرة أيضاً، وحالياً أنا على وشك الانتهاء من مخطوطي الأول في الرواية، لأني عقدت العزم على التجريب بأنواع الأدب كافة..
غير أنها تبرزُ اليوم كشاعرةٍ تحجزُ لتجربتها مكانها اللائق في ديوان الشعر السوري.. هذه التجربة الشعرية التي يقول عنها الناقد خير الله علي إنها: "فيضٌ من العبارات الشعرية والصور والعلاقات اللغوية الغريبة، والشطحات الخيالية.. حيث تبدو الشاعرة واعية ومدركة لما تفعل، فالتمرد لديها مقصودٌ وله غاية، وهي الانعتاق من كلِّ الأحكام الجاهزة والمعروفة.. كما تبدو روحها الهامسة الشفافة في اللغة التي تبوحُ بكاملِ حريتها محلقةً في فضائها، وكاشفةً ما يدور في أعماق مشاعرها تجاه موضوعات كثيرة وجدانية ذاتية وإنسانية متجاوزةً كلَّ القواعد والقوالب المعهودة في كتابة الشعر والنثر."
" زرَعَ حَبيبي الجُلّنارَ، في حَدائِقِ جَسَدي
ليحيكَ اللّيلَ بِرِفقَتي
هذا البَرْدُ لَم يَعُدْ يَهمُّني."
ويتابع علي حديثه: تُقدّم سعود (الحكائية) بمقدارٍ محسوب، بحيث يبقى النص في محراب القصيدة، وما الحالة السردية سوى استعارة لإغناء الحالة الشعرية.. ربما لأن القصيدة الجدية لم تعدْ تهتم كثيراً بالصورة الجزئية، وإنما بالصورة الكلية، حيث يعرف السرد القصصي أو الحكائي فقط كيف يُشكّلها حين يعتمدُ الشاعر على خلق مشهده الشعري بعملية اطرادٍ تراكمية على المستوى الشعوري أولاً، والتخيلي ثانياً، ولا يكتمل المشهد إلا عند الوصول إلى الكلمات الأخيرة من القصيدة، فليس من السهل نقل الشعور من حيزه الداخلي إلى حيز الحكاية حيث تلتقطهُ باقي الحواس مشكلةً علمه المكاني بكلِّ مفرداته.. ربما من هنا كان الاستهلال كما تُسمي إحدى قصائدها، الذي يُشبه (كان يا مكان)، لكنها سرعان ما تُدخل النص في خيمة الشعر؛ عندما يذهبُ الاستهلال صوبَ الليل.. هنا ثمة إغواء في جذب الملتقي باستهلال الحكاية، أو بدخوله من بوابة الحكاية لرحابة الشعر..
"استهلُّ الليلَ بك
رتْقَ القلب؛
فأتوهُ قبل البدءِ،
أعلقُ قلبي طاحونَ حقولٍ،
أنثرُ من بعضه رائحتك،
ومن بقاياه؛ أصنعُ ذاكرةً للعصافير.."
تجربة شعرية يرى الناقد العراقي علي لعبي أنها: "شاعرة تبحث عن مفردات لم تكتب بعد، بوعي فكريٍّ فريد، وبأسلوبٍ مشوّق يجمعُ ما بين اللغة الثرية وموسيقا الوعي، وتلك نوادر من يكتبون بهذا المستوى.. والجمع هنا حرفة، إنه التجديد غير المفتعل بين أنْ ترسمَ صورة كلماتك بثيمةٍ مبتكرة وأسلوبٍ ترى فيه الرقي والإبداع."
في نص أريج سعود الشعري؛ تجمعُ الكثير من مفردات الحقول والطبيعة بشكلٍ عام، لتُغني من خلالها تراكيبها الشعرية، هنا ثمة محاولة للتماهي بين الطبيعة التي تُشابه المرأة في كلَّ نوازعها، وهواجسها، وهنا حيث الطبيعة تُبدي مقداراً كبيراً من السخاء، وهي تعيرُ الشاعرة كنوزها، أو ربما تُهديها لها، ليأتي النص مروجاً ملونة، وبساتين مثمرة، وقمماً وسفوحاً وودياناً، وأشجاراً كثيرة.. وليبدو طيب المقام في فوضى ترتيب مكامن الشغب في تفاصيل الخصلة المجنونة، والتفافات خصر الرمش العتيد، حيث لا تترك الشاعرة "جسداً يائس الحيلة أمام المسافة الساحرة بين أصبعيك والشفة"،
هكذا تفتحُ الشاعرة ما يُشبه مركز بريد، أو إرسال لبعث "المسجات" المحتملة في وصولها لسلة الرجل الذي تتعدد هيئاته وحالاته، وإن كان هنا يبدو الحبيب الغامض والملتبس وحتى الموارب تماماً كبنفسجٍ مُتمرس في المخاتلة؛ هو الأكثر حضوراً.. هذه الرسائل التي تصيرُ غايةً، تماماً كملاذٍ، أو دواء تداوي الشاعرة من خلالها شغفها توقيعاً ب:
"بصمة اسمٍ
حرفَ مجونْ
أو ساريةً لم تُحرقْ
شراعاتُ الحُبّ القُّدسي هنا؛
عبرتُ شغفي
رتقاً رتقاً،
خيطاً خيطاً،
قُبلةَ زبدٍ رشّ على روحي ما أشفقْ.."
هكذا هي الشاعرة مع (بنفسجها) في تنوعات وتدرجات توناته اللونية في المشاعر المُتقلبة، والمُتباينة بين (حزنٍ وبهجة) في غابةٍ من المخاتلة اللونية، هنا حيثُ يطفو الوقتُ:
"نصلاً
مع كلِّ ابتسامةٍ ينزفُ الرفضُ
والبحثُ عن خيطٍ أو أكثر،
ليخيطَ الشبابيك المُتمردة
على قواعد الرقصة الناقصة.."
وهكذا تأتي الرجاءات مكسورة الخاطر، وتعودُ الأماني عرجاء القهقرى، والالتباس كان دائماً في تقدير الموقف – الصواب في الزمان والمكان.. فما ضرّ الحبيب لو كشف عن مكانه، وتفاصيل رغباته، فما بين النور والعتمة ثمة مسافة رمادية الحالة، ربما من هنا كان عتابها لهذا الحبيب الموارب، أو الغامض:
"لو أنك فقط أخبرتني قبل البدءِ
إنكَ تبنيّتَ النور؛
كنتُ ما عودتُ
قلبي أن يكبر في العتمة.."
بهذا السرد الذي يذهب أحياناً للإسترسال؛ لا تُقدّم الشاعرة سعود (بيت القصيد) دفعة واحدة، أو على طبقٍ من وضوح، بل تجعل المتلقي يصعد مدرجات وسفوح، أو تُشير له بالمنحدرات ليصل زعرور أو تين الشجرة النائية، أو قد يجد غايته الشعرية قرب جذعٍ سنديانةٍ عتيق، وربما على ضفةِ ساقيةٍ بعيدة.. تكمنُ الفعالية الشعرية عند سعود حيث (بيت القصيد) أو القول الشعري الأبهى الذي يأتي كمن عثر على كنزٍ، أو مؤونة شتاءٍ طويل.. هنا يُحيلك النص الشعري إلى حقلٍ معرفي للمفردة الموحية، وإلى فسحةٍ لتحويل الصور إلى أصواتٍ داخلية، وتشابك اللون والحركة معاً..