بسبب تصرفه غير اللائق، عندما شربَ الماء بعد فنجان القهوة، وهي استهانةٌ واضحةٌ بذوق أهل العروس، كان لا بدّ من رفض ذلك العريس، لأنه لم يحترم "الأصول"، والكلام هنا للحاجّة "أم علي"، مستغربةً تساهل الصبايا اليوم بكثيرٍ من العادات المُتعارف عليها، بمثلِ هذه الصرامة اعتاد أهالي محافظة ريف دمشق التعامل في أمور الخطبة والزواج، وعلى حدّ وصف الحاجّة، الالتزام بالمُتوارث شعبياً، أمرٌ مفروغٌ منه في مناطق وبلدات مثل "قدسيا والتل والديماس وداريا"، وغيرها، على امتداد البيئة القريبة من العاصمة.

تتفرد محافظة ريف دمشق بطقوسٍ ومفرداتٍ تراثية خاصة بالعرس الشعبي، لم تجد من يجمعها ويُوثِّقها كما يجب، وهو ما يُشير إليه الباحث محمد فيَّاض الفيَّاض في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن"، مؤكداً أن "مكتباتنا تفتقر حقيقةً للدراسات البحثية المعمّقة في قضايا التراث الثقافي غير المادي، ظهر ذلك جلياً بعد القيام بتوقيع اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي مع "اليونسكو" ما فتح شهية الباحثين للكتابة بقضايا التراث والعادات والتقاليد والحرف، وكذلك الأزياء وفنون الأداء والموسيقا".

وللإنصاف يستحضر الفيّاض عدداً من الباحثين الذين كتبوا في هذا الجانب، يذكر منهم الباحث "عدنان العطار" في كتابهِ "تقاليد الزواج الدمشقي البدوي والريفي والحضري"، صدر عام 1991م عن دار سعد الدين، أيضاً كانت تجربة الباحث الراحل "منير كيال" من أفضل التجارب البحثية في كتابه "صور طوتها الأيام – كتاب العرس الشامي" عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2012م، كما تفرّد في الكتابة عن طقوس الأعراس الشعبية في ريف دمشق الراحل "محمد خالد رمضان"، وهو ينتمي إلى هذه البيئة "منطقة الزبداني"، وكانت كتاباته تميل إلى الشرح المؤيد بشواهد الغناء والأمثال الشعبية.

طقوسٌٍ ومفرداتٌ تراثية خاصة

"معاييرُ الخطبةِ"

الفستانُ الأبيض

يستند العرس الشعبي في ريف دمشق إلى مقومات، يأتي في مقدمتها "طقس الخطبة"، يُوضح الفيّاض: "ما زالت التقاليد الشعبية عند أهل الريف تتصف بالبساطة والشفافية وكذلك الخصوصية وعدم الانفتاح كمجتمع المدينة المتحضر، ولهذا يتم البحث عن شريكة الحياة وفق معايير التقصي والاستكشاف والاختبارات التي تتم من قبل النسوة من خلال الزيارات المتكررة عندما يتم اختيار الفتاة، وربما يتم اختبارها بقضايا متعددة، قد تكون محرجة، لكن يجب أن تنطبق على الفتاة معايير مهمة، هي الحسب والنسب، المنبت الطيب الصالح، الأخلاق والدين، ومن ثم الجمال".

"الجاهةُ أولاً"

تلي الخطوبة عدة خطوات لاحقة، تبدأ مع قدوم "الجاهة" إلى شراء الذهب "التلبيسة" والثياب وإعداد الطعام وإقامة حفل الغناء، وكل هذه الأشياء يتم تنسيقها مع أهل العروس وبحضور أخيار المجتمع من رجال الدين وأصحاب الشأن من الوجهاء. ومن الطقوس المُتعلقة بالخطبة، والكلام للباحث: "تحديد مهر العروس وطريقة عقد القران، تلبيس الذهب، ثقافة إعداد الطعام وطرق التقديم، بما فيها ثقافة إعداد القهوة العربية، الاختيار الدقيق لفنون الأداء المتمثلة باستخدام الآلات الموسيقية والكادر المرافق، الغناء المرتبط بطقس الخطبة بالإضافة إلى الأمثال الشعبية".

تقاليدُ تتصف بالبساطة والشفافية

"التعينية" و"النقش"

يتم الاتفاق على تحديد موعد إقامة حفل العرس، بعد أن يقوم والد العريس بتقديم مبلغ من المال لأسرة العروس، وهو ما يُعرف "بالتعينية"، وقد يكون هذا المبلغ بحسب ما تراهُ أم العريس في مستحضرات جهاز العروس التي ستخرج إلى دار العريس في موكبها، لتبدأ بعدها مجموعة طقوس تسبق الحفل، منها "ليلة النقش"، يقول الفيّاض: "يتم في هذه الليلة تزيين العروس من قبل زميلاتها، من خلال إذابة الشمع العسلي الممزوج بالكحل ورسم بعض الأشكال على يديها وزنودها وقدميها بجو من الغناء والرقص".

"ليلةُ الحناء"

يضيف للمدوّنة: "في "ليلة الحناء" قبل حفل الزفاف بيوم أو يومين، يجري نقل جهاز العروس إلى دار العريس في طقس تراثي، يتقدم هذا الموكب مختار القرية وإمام المسجد، وبعض الوجهاء، حاملين المصحف الشريف، وأشخاص يقومون بحمل وسادة العريس، والجودلي "اللحاف"، والفراش والسجادة، وكذلك (البيرو) "الصندوق" المطعم بالصدف وربما الفضة أو خيوط القصدير بحسب الحالة الاقتصادية لأهل العريس، كما يتبع الصندوق مرآة كبيرة موشحة ومطعمة بالصدف البحري والنهري والزخارف النباتية، في حين يكون "المنجد" قد سبق الجميع إلى دار العريس لتركيب الستائر، واستكمال المفردات الأخرى المتعلقة بهذا الطقس".

"حمّامُ العرسِ"

من الطقوس الأساسية في حفلات الزفاف في ريف دمشق، "الحمّام"، يرافقه العديد من مفردات الغناء والرقص الشعبي "السيف والترس"، وفي حمّام النساء، "تقوم الماشطة بترجيل شعر العروس وتضميخه بالعطور وتزجيج حاجبيها، كما تقوم الخياطة بتلبيس العروس كسوتها وتزيينها بالمجوهرات، ومن ثم يُسدلُ على وجهها غلالة من التول، ويطلب منها الرزانة وعدم التلفت والحركة، وتنبري إحدى المدعوات إلى ذرِ الملح عليها بغية تحصينها بآيات الله وخزي العين، كما يتم تبخيرها بعود الطيب أو غيره، بينما تصدح حناجر النساء بالزغاريد: أوها: وسبع بقج تبقجلكِ، وتعني هنا صرر الثياب، أوها: والثامنة بالصندوق، أوها: وتسلم ذقن أبوكي، أوها: يلي ما حاجك لمخلوق، لي لي لي ليش".

"طقس الفاردة"

يتحدث الفيّاض عن "الفاردة": "طقسٌ تراثي جميل يقوم به أهل العريس بتخصيص عدد من النساء من أقاربهم برفقة عدد من الوجهاء للذهاب إلى بيت العروس لاصطحابها بموكب مهيب، يتخلله عقد الدبكات الشعبية والمديح في الغناء لأهل العروس، ومن ثم ينطلق الموكب إلى المكان المخصص لإقامة حفل الزفاف". كما يقوم أصدقاء العريس بعد خروجهِ من الحمّام، "بعقد الدبكات الشعبية، ويستضيف أحدهم العريس وصحبه ليرتدي ثياب الزفاف، وقد يجري أحياناً تخضيب "خنصر" العريس بالحناء، وتخضّب أيضاً بعض أصابع أصدقائه، ثم يذهب الجميع إلى منزل والد العريس لتناول طعام الغداء، وخلال ذلك يدعوهم إلى حضور حفل الزفاف والاشتراك بالعراضة بعد إقامة الصلاة، لأن الأعراس كانت تتم يوم الجمعة، وهي ليست قاعدة عامة".

"عادةُ الشوباش"

في حفل الزفاف، يجتمع الأقارب والأصدقاء والوجهاء، ورجال الدين من الطوائف المختلفة، بطقس روحي فني ماديّ مثيولوجي، يقوم أهل العريس بتقديم واجبات الضيافة، ويعد حفل الزفاف بمنزلة الإعلان الرسمي لولادة عائلة جديدة. ويتضمن حفل الزفاف طقوساً كثيرة من أهمها "الشوباش" أو "النقوط"، وهي "عادة تنهجها كل البيئات السورية الميسورة والفقيرة، والغاية منها تقديم المساعدة الجماعية للعروسين، ولكن بعض المجتمعات تعدها عادة غير مستحبة"، يُتابع الفيّاض: "بأنها قاعدة من قواعد التكافل الاجتماعي، وهي من الأعراف الاجتماعية الموجودة في كل المجتمعات، ولكنها بالطبع غير ملزمة، ولا سيما أننا اليوم نختلف عن زمن الأمس".

"لصقُ العجينةِ"

ما إن تعود "الفاردة" برفقة العروس وعند بلوغها باب دار العريس، تُعطى العروس المرتدية ثوبها الأبيض قطعة من خميرة العجين بغية لصقها على عتبة البيت العليا أملاً في أن يكون مقدمها فأل خير وبركة، يجري هذا الطقس التراثي وسط غناء الصبايا والنساء، يقتبس الفيّاض منه: "أوها: امشي دأة ...دأة، أوها: يا صنوبر منأى، أوها: وكل الفرحات بطالة، أوها: إلا هالفرحة من حأى، لي لي لي ...ليش".

طقوسٌ مُتشابهة

يُشير الفيّاض إلى التشابه الكبير في قواعد إقامة الطقس الشعبي "الخطبة والعرس"، ليس فقط بين المحافظات السورية التي توحدها بيئة جغرافية واحدة، لكن أيضاً في الدول المجاورة لنا لأنها بالأساس وحدة جغرافية واحدة. يضيف لـ"مدوّنة وطن": "هناك أسباب كثيرة لتلاشي بعض مفردات الطقوس الشعبية التراثية، في مقدمتها عنصر التطور والحداثة، وثورة المعرفة والغزو الثقافي، إضافة إلى الأزمة السورية التي ألقت بظلها الثقيل على كل مناحي الحياة، ومنها العادات والتقاليد الجميلة، حتى باتت هذه الأشياء كلها ضرباً من الترف عند معظم مكوّنات الشعب السوري".