يعدُ "الجولان" بيئةً مثاليةً لنمو الثراء الحرفي المرتبط بحاجة الناس، ولعلَّ جرن الكبة ذائع الصيت في البيئات السورية جعل لهذه الأداة التي تختلف في صنعتها بين بيئة وأخرى بسبب اختلاف البيئة الجغرافية، صبغة خاصة ومادة صنع فريدة.

"محمد فياض الفياض" الباحث في التراث الشعبي وابن "الجولان"، في حديثه لمدوّنةِ وطن "eSyria" بتاريخ 17 نيسان 2020 عن جرن الكبة في "الجولان"، قال: «برز في "الجولان" العربي السوري العمل الحرفي اليدوي جلياً في الحياة اليومية، ولا سيما العمل المرتبط بحاجة الإنسان منذ القدم، ولعل وفرة الخامات الطبيعية أظهرت بسهولة براعة أهل البيئة الجولانية في صناعة الأجران الحجرية المختلفة والمتعلقة بثقافة الطعام، وبما أن المجتمع الجولاني ينتمي إلى طبقات اجتماعية متعددة يسود أغلبها الفقر، فقد برزت ثقافة إعداد هذه الأجران بصورة متباينة اختلفت من بيئة إلى أخرى، أما المناطق الحضرية الميسورة فكانت تمتلك الأجران الخاصة والتي تختص ببعض العائلات، وكانت في بعض الأحيان تحمل أسماء هذه العائلات، كما كانت الكتلة أو الخامة لهذه الأجران تختلف بحسب الإمكانيات لكل أسرة، إذ كانت لدى الطبقات الفقيرة تصنع من الحجارة البازلتية السوداء المتوفرة في البيئة الجولانية بشكل كبير، وكانت أداة السحق المرافقة أي (المدقة) تصنع من الأخشاب المحلية المتوفرة أيضاً في هذه البيئة الغنية بخاماتها ومواردها الطبيعية، وهي تستخدم في سحق اللحم والخضار، أما عندما يتم سحق الحبوب القاسية والجافة فيجب استخدام المدقة الحجرية المصنعة لهذا الغرض، أما الطبقات المترفة أي الميسورة فكانت الأجران لديهم تصنع من الحجر الأبيض الرخامي وربما الأبلق المرمري غالي الثمن؛ وبحسب توفر الخامات المناسبة، وكانت تنقش على هذه الأجران رسوم نباتية وربما حيوانية وربما تكون مكشوفة بلا رسوم أو نقوش، وقد تحمل في بعض الأحيان كتابات بخطوط مختلفة».

في الأيام الماضية من عمر "الجولان" العربي السوري أي قبل عدوان حزيران عام 1967 كنا نعمل على تحضير الكبة بطريقة الدق بالجرن الحجري والعصا الخشبية والملفت وقتها اجتماع أهل المنزل حول جرن الكبة في طقس أشبه بالاحتفال الأسري، إذ كان لهذه الأكلة طعمها الخاص ونكهتها المميزة. ومن الغناء الشعبي المرافق لعمل جرن الكبة: ليّا وليّا يا بنيَّة / يا وَاردةْ عَ المية أُمكْ وأبوكْ قالولي / ليًّا ورْدتْ عَلْ المية ليَّا وليَّا يا بنيَّة / يا ليلى الجُولانية من يوم ورايح بدّي / أشوفكْ ليليه واليوم عنّا العذارى / دقّي الجُرن يا بنية ليّا وليّا يا بنية / أرضْ الجُولان سورية ## وأيضاً: وإن شاء الله تبقي عَمار يا دارْ أبو محمد يا دار والمناسف كبابْ تنْدار والقهوة تصير بهار. مضيفة: «من العادات الشعبية المرتبطة بجرن الكبة إذا توفي شاب صغير يحرم على أهل الفقيد استخدام جرن الكبة لمدة عام؛ ويبعد عن المنزل ويعامل بجفاء، وأم الفقيد لا تعاود عملها ونشاطها في دق اللحم بالجرن إلا بعد أن توزع مقداراً من اللحم على عدد من الفقراء في حيّها وربما قريتها، لتستطيع بعدها متابعة عملها في استخدام الجرن من جديد

وتابع حديثه بالقول: «الحقيقة التي لا بد من قولها إن المجتمع الجولاني من أغنى البيئات السورية بالفنون الشعبية والتراث الشفوي المرتبط بثقافة صناعة الأجران وثقافة الطعام، وقد برزت بعض أنواع الغناء المرتبطة بهذه الصناعات الحرفية وطقوسها، وهي تختلف من الشمال إلى الجنوب، ومن شرق البلاد إلى غربها، ولكنها تؤلف مجتمعة حالة من الترف الفني الذي يشابه بمضامينه الجميلة ألوان الطيف وانعكاساته، إذ كان لهذه الأجران الحجرية نكهة خاصة في البيئة الجولانية ولا سيما أثناء إقامة الأعراس، لأن ثقافة الطعام مرتبطة بلون وشكل وطقس، ويعد المنسف رائد الأطعمة ولا بد أن يكون مزيناً بأنواع الكبة الفاخرة المحشوة باللحم والجوز وغير ذلك من منكهات.

"محمد فياض الفياض"

كما كان لصناعة هذه الأجران حرفيين مخضرمين يعملون بمهارة عالية وتقنية مدهشة لأنهم يحصلون رزقهم ورزق عيالهم من تصنيع هذه الأشياء، ولهذا كان يحرص الحرفي على الصدق في العمل والإخلاص وكذلك الإتقان في تصنيع منتجه الحرفي الذي يلبي حاجة خدمية لمجتمعه المتعدد الأطياف كي يكسب أجره بقناعة مطلقة، وكانت مدينتا "القنيطرة" و"فيق" من المراكز المهمة في تصنيع هذه الأجران، بالإضافة إلى قرى وأرياف القطاع الشمالي، كما كان لهذه الصنعة حذاقها من الحرفيين».

"مريم العطا" من أبناء "الجولان" تحدثت عن وظيفة جرن الكبة وصلته بالتراث آنذاك إذ قالت: «في الأيام الماضية من عمر "الجولان" العربي السوري أي قبل عدوان حزيران عام 1967 كنا نعمل على تحضير الكبة بطريقة الدق بالجرن الحجري والعصا الخشبية والملفت وقتها اجتماع أهل المنزل حول جرن الكبة في طقس أشبه بالاحتفال الأسري، إذ كان لهذه الأكلة طعمها الخاص ونكهتها المميزة.

جرن الكبة من الحجر البازلتي الأسود

ومن الغناء الشعبي المرافق لعمل جرن الكبة:

ليّا وليّا يا بنيَّة / يا وَاردةْ عَ المية

من البيئة الجولانية

أُمكْ وأبوكْ قالولي / ليًّا ورْدتْ عَلْ المية

ليَّا وليَّا يا بنيَّة / يا ليلى الجُولانية

من يوم ورايح بدّي / أشوفكْ ليليه

واليوم عنّا العذارى / دقّي الجُرن يا بنية

ليّا وليّا يا بنية / أرضْ الجُولان سورية

وأيضاً:

وإن شاء الله تبقي عَمار يا دارْ أبو محمد يا دار

والمناسف كبابْ تنْدار والقهوة تصير بهار.

مضيفة: «من العادات الشعبية المرتبطة بجرن الكبة إذا توفي شاب صغير يحرم على أهل الفقيد استخدام جرن الكبة لمدة عام؛ ويبعد عن المنزل ويعامل بجفاء، وأم الفقيد لا تعاود عملها ونشاطها في دق اللحم بالجرن إلا بعد أن توزع مقداراً من اللحم على عدد من الفقراء في حيّها وربما قريتها، لتستطيع بعدها متابعة عملها في استخدام الجرن من جديد».