قرضت الشعر الوجداني عاطفي الصبغة بالفطرة لتنظم قصائدها وتختزنها في ذاكرة حرص الأبناء على حفظها وصبت في ديوان صدر لهذه الشاعرة بعد وفاتها، ليحفظ ما جادت به قريحة الشاعرة "تركية غبرة" ويكون أول ديوان للشعر العامي لشاعرة في "جبل العرب".
موقع eSuweda آثر التعريف بهذه الشاعرة التي ذكرها الباحثون في الأدب الشعبي في مؤلفاتهم وكرمها التلفزيون العربي السوري كأم مثالية، وجمعية الأدب الشعبي وأصدقاء التراث وكانت أول امرأة في سورية تنال هذا الشرف، وذلك مع صدور ديوانها الأول والأخير الذي جمع حصيلة عمرها ولتكون لنا وقفة مع ما تضمنه من أشعار لها قيمتها التي أقر بها من طالع الديوان وعاصرها.
ما جمع في هذا الديوان كان أوراق تتقاذفها عواطف مكنونة لأم عانت من الفراق وأنضجت الدمع شعراً تسوقها رياح حب متناوحة لتعبر عن شوق، لمن حرمت العين من رؤيتهم وهم الأبناء، الذين اغتربوا للدراسة أو العمل لتخرج بجمل ومفردات كانت ميزتها عن غيرها من الشعراء ومن هذه الجمل: نذخر دموع مقطرة بالقناني
جمع الديوان لم يكن لغاية الجمع بل لمجموعة من الرؤى التقت عند الأبناء وعبر عنها لموقعنا المحامي "عماد عبيد" أحد أبناء الشاعرة بقوله: «بداية كان الحرص على تسجيل كل القصائد بصوتها حيث رفضت النشر فقد جعلت ذاكرتها ديونها الصحيح، لكننا من منطلق الوفاء لها أعددنا لهذا الديوان بالتعاون مع الباحث "محمد جابر" لعدة غايات أولها أن نقدم ديواناً بشكل منهجي ثقافي بعيداً عن طريقة النشر التقليدية، ليكون ديواناً محققاً من قبل أهل الاختصاص، ومن ناحية أخرى كانت الرغبة بالتعريف بتجربة شعرية نسائية في ظل غياب الشعر النسوي عن الساحة، مع العلم بما لاقته أشعارها من صدىً طيب بين شعراء الجبل، فقد كانت لديها الطلاقة والقدرة على الإلقاء لتعرض أشعارها في الأوساط الاجتماعية بتمكن استحق التقدير من كل من عاصرها.
ولأن هذه القصائد كانت حصيلة لعبرات شاعرة بثتها حين اختلج بركان العاطفة فتسامت مشاعرها جراء حوادث ووقائع أصابتها شروخها، وحركت فيها خيالا يأبى أن يستقر، فلم يكن أمامها إلا البوح بهذه النفحات العابقة بحنان الأم والطافحة بشوق مستعر، وليكون هذا الديوان خلاصة تجربة وجدانية لمسيرة شاعرة شعبية استطاعت أن تكون رقما بين النساء، ووجدت لنفسها مكانا تحت خيمة الشعر بثقة واقتدار تنبع من جدارتها كأم وشاعرة أثبتت حضورها في مجتمعها».
«ديوان يطفو فوق بحر من الدموع». صورة يفسرها الباحث "محمد جابر" محقق ديوانها بقوله: «ما جمع في هذا الديوان كان أوراق تتقاذفها عواطف مكنونة لأم عانت من الفراق وأنضجت الدمع شعراً تسوقها رياح حب متناوحة لتعبر عن شوق، لمن حرمت العين من رؤيتهم وهم الأبناء، الذين اغتربوا للدراسة أو العمل لتخرج بجمل ومفردات كانت ميزتها عن غيرها من الشعراء ومن هذه الجمل: نذخر دموع مقطرة بالقناني».
ليخيل إليك أن هذا الديوان قارب يطفو على بحر من الدموع تلك التي رافقت أنينها وتوجعها وحيرتها دون أنيس وقالت:
ياونتي ونة عجوز ضريري/ تدور ضناها وتايهه شلون تندار
ومن يتأمل شعرها يكتشف صدق العاطفة ويعرف أنها صاحبة تجربة تنم على شاعرة تقول الشعر على سجيتها، لها نفسها الشعري وخيالها المتوثب لترسم بالكلمات أفكارها ومن أجمل الأقوال ما جاء مصوراً مثل:
من غيبتك ماظل حيل على القوم/ قصيت ردن الثوب والحبل جرار
عواطفها الصادقة تحثك على متابعة القصيدة يضيف الأستاذ "محمد جابر" بقوله: إلتقيت بهذه الشاعرة أثناء إعدادي لكتاب مختص بالشعر العامي وشعرت بتميزها فقد بدأت بقرض الشعر بعد أن تجاوزت الثلاثين من العمر، لتجد في شعرها الكثير من الاستعارة والتشبيه والكناية وقد تخلو من الألفاظ المستكرهة حيث أنها تسلك طريق الاستثارة العاطفية بالاقتصار على ما حسن وجذب من الصفات المحببة التي تظهر صدقها في شوقها وبكائها والنفس تطمئن للصدق ومما قالت:
أسرك على النابين والصوت مكتوم/ لولا الصبر حنيت حن أم الحوار
وقد كتبت من الفنون البدوية الشروقي (المسحوب) ذا القافيتين والمخمس وكتبت الجوفية والهجينة ومعظم شعرها ذو طابع بدوي ضم كثير من التعابير والمفردات البدوية مثل ياونتي، قصيم، الحيد، القتب وغيرها أما الفنون الزجلية فلم تكتب منها سوى الفن واقتصرت على الرباعي منها، وبشكل عام فهي لم تقل الشعر لتنشره وكانت ترسله بتلقائية أعطت قصائدها جمالاً ورقة ومن بعض أشعارها:
ونتيت ونه يوم عني توانيت/ ونة قصيم ينهض بكاسر البيت
كويتني كي بلا نار واقفيت/ ألهدتني لهد القتب وانت الأسباب/ واسعافنا خبار السلامة تجيني.
ومن خلال ما تناوله من قصة هذه الشاعرة وأشعارها في عدد من الدوريات أفادنا الصحفي "طالب غبرة " برؤيته لأهمية الديوان والشاعرة بالقول : «أن تجد شاعرات في جبل العرب قضية لا تميز فيها لكن أن يصدر ديوان لشاعرة ألفت أشعارها بالشعر العامي فهذه ميزة تجعل الديوان متفردا، ولم نستغرب أن يلاقي الديوان هذا الإقبال لأنه يعرض لحالة نسائية إنسانية لم تكن لتتكرر، هذه الشاعرة التي نالت الجزء اليسير من العلم لكن أشعارها جعلتها توازي شعراء الجبل بجمالية اللفظ واستحضار الصور، لكن ميزة هذا الشعر أنه عاطفي فاضت به مشاعرها لتصف اشتياقها ولوعتها وقصة امرأة خبرت الحياة وكان لها وزنها في مجتمعها، ليكون هذا الديوان أخر انجازاتها التي تكفل بها الأبناء من منطلق الوفاء لها ولمشروعها الشعري فطري المنشأ».
الجدير بالذكر أن الشاعرة "تركية غبرة" من مواليد قرية "ذيبين" 1924 وتوفيت عام 2008 عرف عنها الثقة بالنفس وسرعة البديهة مع أنها لم تتجاوز المرحلة الابتدائية في التعليم ليكون هدفها وزوجها "يحيى أسعد عبيد" الذي لعب دوراً كبيرا في تحفيز موهبتها وتشجيعها، تعليم الأبناء الذين كانوا محور حياتها ومنبعا لشعرها الذي نال الثناء.