ظاهرة الأدب الأنثوي ليست جديدة المنشأ في الأدب العربي، بل إنها قديمة قدمه، وتكاد تعاصر بداياته. وقد ذكر لنا التاريخ أسماء لشاعرات كثر، تبدأ بـ "الخنساء" التي قال فيها "النابغة" في أحد مواسم سوق "عكاظ": «اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين. ولولا أن هذا الأعمى أنشدني قبلك (يعني "الأعشى") لفضلتك على شعراء هذا الموسم، فإنك أشعر الإنس والجن». (1)

وقيل لـ "جرير" من أشعر الناس؟ قال: «أنا لولا هذه الخبيثة». (يعني "الخنساء"). (2)

وقال " بشار " لم تقل امرأة الشعر قط شعراً إلاّ تبين الضعف فيه: فقيل له أو كذلك "الخنساء".

فتاة رقيّة

قال : تلك فوق الرجال (3)، ومنهن "هند بنت عتبة" القائلة: (نحن بنات طارق، نمشي على النمارق، مشي قطا الهمارق). و"ليلى الأخيلية" التي عاشت في العصر الأموي.

وقد عرف العصر الحديث أسماء لا يستهان بها، كـ " نازك الملائكة"، إحدى ركائز الحداثة الشعرية، و"فدوى طوقان"، و"هند هارون".

وإذا ما كررنا النظرة ذاتها في الأدب الشعبي الرقي، نجد أن هذه الظاهرة تختفي، أو بالأحرى تكاد تكون معدومة. فكل ما يثبت من الشعر للنساء، يدخل ضمن إطار النعي، (أي ذكر مناقب الميت) . وهو نظم خاص بالنساء، له موسيقاه الشعرية، وفنونه، وطقوسه، وأطواره الموسيقية، وهو أقرب إلى الوثنية، وينافي مفاهيم الديانات السماوية.

وقد ورد النعي في الشعر الجاهلي، يقول "طرفة بن العبد" في أحد أبيات معلقته المعروفة:

فإن مت فانعيني بما أنا أهله/ وشقي علي الجيب يا بنت معبد

لكننا حين نسلك سبل الاستنباط والاستنتاج، ونعتمد على القرينة، نجد ما يناقض الواقع المعروف – أي أن الشعر لم ينظم من الشعراء فقط – وخصوصاً في الشعر المغنى، أي في الأغنية الشعبية الرقية، أو ما يعرف محلياً باسم (الغناوة)، وإذا ما وضعنا لغة الخطاب جانباً، واهتدينا إلى الكلمة الأنثوية من خلال مميزاتها الخاصة، وجدناها تمتاز بالشفافية، والرقة، والعذوبة، والحزن الممزوج بالعبرة، وخروجها بثورة نفسية تنم عن كبوت داخلي، يعود لظروف اجتماعية، ونظام عام يضع قيوداً صارمة وشديدة. فما يمتلكه الرجل من سبل للتعبير عن عاطفته بشكل حر، لا يقارن بما يتاح للمرأة. إلى جانب ما تنفرد به كأنثى بشكل عام، كالضعف الجسدي، والمزاج المتغير، والعاطفة الحارة المتقلبة.

ومن خلال دراسة ميدانية أجريناها مع بعض الشعراء الشعبيين، وهواة الأدب الشعبي، لم نعثر إلاّ على بضعة أبيات لشاعرات معروفات، إذ أكد أغلبهم على نسبتها إليهن من "الموليّا":

يا ضي جبينو يخدو تقول بدر هل/ دمعي على خلتي من غير سايه هل

اسـايلك بالنبي منت ولـد منهل؟/ امعطر زياجو من الريحان ممليّة

ومن "العتابا":

أيا رمـح الردينـي و المعد لك/ يا ليج للخواطر و المعد.... لك

يا قلبي من بعد ولفك ما عاد لك/ حدى يفهم حديثك....... واللغا

ومن "العتابا" أيضاً:

اشعجب يوم رحلتم ليه تغربي/ يا قلبي موجدينو بنار غربي

عسـى من عقبكم لاهب غربي/ ولا خب الفريجي بالنـدى

ومن "النايل":

القلب منك جفل ما عاد لك يفعل/ تطارد هوى غيرنا وتريدني مازعل

وعثرنا أيضا على بعض الحكايات التي تضمنت في مجرياتها شعراً أنثوياً، ومما روي لنا أن شاباً قال لفتاة بعد أن حمل راحلتها بالذرة الخضراء:

على صدور قريت الميم واللاف/ لبو جعد يشـبه العربيـد لولف

ترى البطان و العرنوس واللاف/ حشيش لكم يا مجدوعين الذواب

فأجابته قائلة:

حلفت لك بيميـن الشـرع مازال/ هواكم بخمص حشاي.. ما زال

محرم علي معاشر العفنين ما زال/ انتم مذاكير ........ بالهوى

ويقال أن هذا البيت كان مهراً لها.

نعود مرة ثانية إلى خصوصية الكلمة الأنثوية، التي يمكن من خلالها الاستدلال إلى جنس قائلها، فإذا ما فردنا ألوان الشعر الغنائي، إلى "العتابا"، "الموليّا", كألوان تحتل الصدارة في الأدب الشعبي الرقي.

"العتابا":

فكل ما تقوله النساء من "عتابا" يعتبر نعياً، وذلك لغلبة لون الحزن عليه، فإلى جانب سوداوية "العتابا" بشكل عام، يمزج إليها مزاجية المرأة، وحساسيتها العالية، وتأثرها السريع بما يحيط بها. جعلت الناس يضعون هذا اللون من الشعر في صنف النعي حتى، ولو كان تغزلاً، أو فخراً، أو شكوى

يا حلوين الشوارب ..........والربنة/ شواربكم بالسوافي .............والربنة

عسى من عقبكم لانبت ورد... الربنة/ ولا خب الفريجي ..............بالندى

لكن هذا لا يحتم خلو "العتابا" الغنائية من الشعر الأنثوي. إذ أن بعض الكلمات المؤنثة التي تقال بين كلمات الشعر تحدد جنس القائل فاستخدام كلمة (خايرة)، بمعنى خائرة إلى جانب طريقة البكاء، وكثرته في البيت التالي تحدد أنثويته:

أبد ما راح طاريكـم من البال/ بكيت وهرين زياجي من البال

آني عليهم شبه خايرة من البل/ تحن وعلولف تلوي رقاب

إلاّ أن نظم "العتابا" صعب، لما يشترط بها من جناس، إلى جانب وزنها العروضي، حيث تكتب على البحر الوافر، بينما تميل الأنثى إلى بحور الشعر التي ترد على تفعيلة واحدة، كالرجز والمتقارب، بالإضافة إلى خشونة الكلمة، مما ساعد في إبعاد الأنثى عن نظم هذا اللون، لذا نجد "العتابا" الأنثوية قليلة، ما لم تكن الشاعرة ذات موهبة فذة، كما أسلفت ببداية حديثي عن "الخنساء"، والشعر الفصيح، إذا ما قورنت "العتابا" ببعض الألوان الأخرى كـ"النايل"، و"السويحلي"، و"اللكاحي"، ولا يغيب عن الذهن أن "العتابا" أصلاً قليلة النظم في مدينة "الرقة"، ليس من النساء فحسب بل من كلا الجنسين.

"الموليّا":

تكاد "الموليّا" أن تحتل الصدارة في الألوان الغنائية الرقية، كما أسلفنا الحديث عنها، ومع كثرتها تندر الكلمة الأنثوية فيها، إلا أنها لا تندرج بين أشعار النعي، فهي غنائية دائماً، مهما كانت تحمل من كلمات حزينة، وإن كانت نسوية النظم.

أحباب قلبي رحلم ما هيروني ... ليش/ أبكي واهل الدمع بردان ثوبي... امش

دحقت غربي النزل شرجي النزل مامش/ أصوب ابن الحلال اليذكرو......ليّه

هذا البيت مجهول الهوية، فإذا ما أمعنا النظر بطريقة مسح الدموع (بردان ثوبي امش)، ومنهج البحث (دحقت غربي النزل شرجي النزل مامش)، والاستنجاد (أصوب ابن الحلال اليذكرو ليّه)، كل هذه السبل أنثوية، مما يؤكد أنوثة هذا البيت. أما الرجل فإنه يبحث بطريقة مختلفة:

أم القذل الشقر عالصدر ظفران/ اتبع ضعنهم إن كاد الهلب ظفران

ان كاد بيني وبينك جمع ظفراني/لا بد على وصولها لو ينشهر بيّه

فقائلة البيت الأول – المفترضة – تبحث عمن فقدته بالنظر شرقاً وغرباً، أما قائل البيت الثاني فإنه يتبع الضعن، حتى ولو كانت راحلته حافية بلا نعل (أتبع ضعنهم إن كاد الهلب ظفران). كما يمكن الاستدلال على البيت الأنثوي من خلال مقاييس الاهتمام، فالرجل تثير اهتماماته ألوان العيون، طول الضفائر، وألوان الشعر (عيونك سود – طوال جعود حبي – أم القذل الشقر).

أما المرأة فتميل إلى وصف الرجل بالقوة، وأثر السيف:

جكر لكم ياهلي لاخذ التبغضونه/ وأجدي على ركبتي وأمشط قرونه

لمن مشى بالنزل كلكـم تعرفونه/ سيفو يحل الظهر مابو رحاميّه

ومع أن "الموليّا" يمكن أن تكون سبيلاً للعاشق، والمتيم، والمفارق، والرجل، والمرأة بآنٍ واحد. فيندر ما نجد بيتاً من "الموليّا" أنثوي النظم، وذلك لصعوبة نظمها أيضاً، إلى جانب كونها أغانٍ رجولية أكثر منها أنثوية، فهي تغنى من الرجال. لذلك تنظم من قبلهم. وما وجود الكلام الأنثوي فيها إلاّ حالات نادرة.

ومهما كان الحديث عن الشعر الشعبي الغنائي في "الرقة" عذباً، يبقى وجوده في منبعه أعذب – أي بين حناجر المغنيين – وقد أثبتت الأغنية الرقية جدارتها من خلال الشهرة الإعلامية، مع أنها نقلت بصورة مشوهة، لا تليق بها، وربما نسبت إلى شعوب أخرى، لكن أصالتها حملتها أينما حطت، وحظيت بجمهور عربيّ واسع.

المراجع:

1. ديوان "الخنساء"

  • المحيط في الأدب "جبران مسعود".

  • الشعر الشعبي الرقي – مخطوط "محمد الموسى الحومد".