الحرمان سمة من سمات الغزل العذري، الذي عرفه العرب في صدر الإسلام والذي ينسب إلى بني عذره وهم قوم يقول عنهم "جبران مسعود" في كتابه "المحيط في الأدب"، ص /305/: «بنو عذره قوم ذاعت أخبارهم في الحب المخلص العفيف وكانوا إذا عشقوا ماتوا».

يروى عن أحد العذريين أنه قال: «لقد تركت بالحيّ ثلاثين قد خامرهم السلّ وما بهم داء إلاّ الحب».

لقد تركت بالحيّ ثلاثين قد خامرهم السلّ وما بهم داء إلاّ الحب

من ذلك يقول "جميل":

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتها... فيعود

من جلسات الغناء الشعبي

ويقول قيس لبنى:

كتاب الموليا

إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا إلى الله فقـد الوالديـن يتيــم

يتيم جفاه الأقربـون.. فجسمه نحيلٌ وعهد الوالدين قديـــم

يشاطر الشاعر الفراتي الغزل العذري هذه السمة، وربما تسمو على غيرها من سماته الأخرى كالحبيب الواحد:

(لي هاج بحر الهوى الزيـن ملاّحِ/ حتى العذيمي يتباهـى حين مالاحِ

اركض وراهن واصيح ملاح يا ملاحِ/ كلجن حوارم ترى من غيرها هيّه)

والوفاء والوجد والإخلاص، والألم حيث يتضاعف فيه الحرمان من رؤية البيت, والحاجة إليه.

(يا ربي صابر لحكمك مالوج آني/ وصرت مثل اليتيم المالو جاني

دخيـلك لا يـا سـيّد ملّه جنّـي/ خذن عكلي وخلنّـي بالهوى)

في الغزل العذري كان يذكر في أغلب أبياته اسم من يتغزل بها الشاعر، على نقيض الشعر الشعبي في وادي الفرات، حيث لا يسمح النظام العام في هذه البيئة بذلك. لذلك يلجأ الشعراء إلى سلوك سبل أخرى، فقد يستعيض الشاعر عن ذكر الاسم بذكر معناه:

(آني جتلنـي من اسـمه باول الـذودِ/ حنـت علـى حوارهـا بفـروع ورودِ

ماكدر على وصولها لا آني ولا نجودي/ همي رحل رحل ما يشيلوه هديب شرجيّه

آنـي جتلني من اسـمه للفلـق تالـي/ .....................................)

وهذه إحدى ركائز الحرمان فيه. أما عن ظواهره، فتبدو وفي أغلب الأبيات، فنجد من أمسى لفراق الحبيب كمن أصيب بداء السلّ:

(من منكم نشـد علي من سال؟/ جفيتوا وبجفاكم ....صرت منسال

شعندي غير دمع العين من سال/ اخفف بيّه مصـاب الصّار... بيّه)

ومنهم من يقول أنه مات لفراق حبيبه فأحيته أخباره:

(يا عين هاتي بكى يا عين بطلي النوح/ اريديج يوم المفارق بيج عينة روح

جاب المخيط جفن جـاب المغسـل لوح/ وسمعت بأخبارهن دار النفس بيّه)

هذه الشجون، وتلك العبرات المرسومة بعناية متقنة, وهذه الصور الجميلة الواردة في غزل الحرمان، أكست الشعر في وادي الفرات ميزة فريدة، تملكها وامتاز بها، ونقلت لنا بصدق حاجة الشاعر لمن يهوى ويحب وحرمانه من لقائه. فبدت كشربة ماء يشتاقها الظمآن، ولحظة أمان برنو إليها الخائف، فجاءت رائعة بكل ما فيها، وكانت بذلك ثوباً من ثياب الحزن التي يرتديها الشعر الفراتي.

المصادر:

1ـ المحيط في الأدب، "جبران مسعود".

2ـ ديوان "جميل بثينة".

3ـ ديوان "قيس لبنى".