«المسافة بين العين ومرمى البصر ليست الحد الوحيد للرؤية، هناك أناس يرون بقلوبهم وبعقولهم، يخلقون عالمهم الخاص اللانهائي، ينهضونه من غفوة الركود، عالم لا حدود له، ينفي ما هو قائم، يلغيه، هو بديل منه، تمرد عليه، والتمرد، يعي ذاته، يدرك ظروفه، يصبح ثورة شاملة، تحطم لتبني، تتجاوز شرطها الإنساني، مصدر ضعفها وسر قوتها تنحدر من ذلك عبوديتها، تنطلق تتعرى تغتسل، لا تهرب، تحلم، تتخطى حدود حلمها، تكسر قيود استلابها، تقارب تخوم الامتلاء، بعيداً عن عجز الفرد، وحيداً في مواجهة تغيير العالم، بهدف الوصول إلى كمال لا يدرك، يؤرق الإنسان، يقلقه، يعلقه على خشبة عذابه يدفعه إلى تجاوز ذاته، إلى تجديدها، من خلال تبديل الظروف المحيطة بها، الذات تمارس حلمها في الواقع».

هذا ما تحدث به الناقد الدكتور "عاطف عطا الله بطرس" بتاريخ 26/8/2008 لموقع eSuweda حول الندوة التكريمية للأديب "حنا مينة" على هامش مهرجان "المزرعة" الثقافي، وهو أحد المشاركين في الندوة وكان لنا معه الحوار التالي:

بين محبيه وعشاق إبداعه أهلاً بنصفه المجنون وبنصفه العاقل أيضاً، جنون الشجعان حكمة الحياة

  • مملكة الأديب الكبير "حنا مينة" الإبداعية كيف كان افتتاحها برأيك؟
  • المهندس يحيى القضماني مع الأديب حنا مينة

    ** الحلم يكتسب قوة مادية، يصبح فعلاً، خلقاً واقعاً بديلاً، مجسداً محققاً الحلم، وسيلة مقاومة، سلاح تخط وتجاوز، قوة كشف، شرارة تفجير في رحلة البحث عن الذات، الطامحة إلى كسر شرنقتها المقيدة لتطلعها الإنساني، نحو مطلق يصعب الوصول إليه، تطلع يردم المسافة بين الإمكانية والطموح، بين الرغبة والواقع، حلم يكشف مخبوء الذات، وصولاً إلى حرية، تطرد الضرورة، وعياً لها، ارتفاعاً فوقها، محققة التوازن الداخلي للفرد ضمن الجماعة، معيدة الانسجام بين الإنسان وعالمه الذي بدأ ينفصل عنه، مع نمو جبروت الآلة وربوبية السوق والسلعة. الحلم ليس "يوتوبيا" خيالية لا، ولا هو مدينة أفلاطونية إنه رمز يحمل في أحشائه قابلية تحققه، هو رؤية يصوغها الفنان من سياط عذابه، من نبض قلبه، من دمه على خشبة صليبه، ليبني عالماً إنسانياً، يواجه الخطر، يمضي في دروب غير مطروقة، في كل خطوة يكتشف مجهولاً يستعيد نفسه، يسترد كيانه، يتحرر من قمقم العقم، جحيم حياته اليومي.

  • ما مكونات المملكة التي صورها "حنا مينة" في أدبه؟
  • الدكتور ثائر زين الدين

    ** الجواب مما قاله الأديب الكبير "حنا مينة" عن مملكته: «لن أسورها بالأسمنت، بل بالرجال، أما القروش التي تظهر مستخفية، ستحملها كالسفن، نفس المياه التي جاءت بها.

    تلك هي المملكة "الحلم" مثلي لن يدخلها، جسدي ملوث، سرت في طرق معروفة، ما دخلت فرن التجربة، روحي تكسرت، عانيت الغربة والتمزق، قلبي ليس ملكي.. سرقته جنية الديجور وطارت، لم تصفق يدي وبمفردها لم أتطهر بعد لكن روحي ستنسلخ عني لتصعد الدرج الذي لا ينتهي لتنقل لكم وصفاً لمجموعات الحشود المصطفة أمام الباب الناري للملكة، مجموعات تنتظر بلهفة واثقة من الدخول إليها، لأنهم يحملون، صفات أبنائها..

    الناقد الدكتور عاطف بطرس

    في الداخل ثمة رجل يضع اللمسات الأخيرة على بنائه، يرتب أشياءه، هنا لافتة كتب عليها: الأحجار التي رفضها البناؤون أصبحت رؤوس زوايا وهناك وعلى الجدار كتب: من لا يخرج صوته من رأسه لا يجيد الغناء، ليس لي أهل، لأن أهلي، جمعياً لم يعرفوا من أنا في حياتي، أن تعيش للاشيء هكذا من أجل العيش، يعني أن تموت، التجربة هي المحك، قبل التجربة جميع الناس مناضلون، وربما أبطال، ستكونون ملعونين من جميع الأمم لأجلي، بخط كبير كتبت: "الخروج على المألوف، لو يفهم في وقته، لما عد خروجاً، لقد اعتاد الناس السير في الطريق المفتوحة، الذين شذوا اعتبروا مجانين. ثم كانت طرق كثيرة، أنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء وانتصرت».

  • لاحظنا ورود مقاطع من وصيته التي نشرت مؤخراً في نصك؟
  • ** نصي بمجموعه هو لعبة فنية مؤثثة لمقتطفات من أعمال "حنا مينة" الروائية على مبدأ التناص، الذي يقوم على تمثيل نص آخر والاستفادة منه في بناء نصٍ جديد، مفارق للنص السابق ومعتمد عليه بنفس الوقت.

    وفي نهاية نصه السردي رحب الناقد "د.عاطف بطرس" بالأديب "حنا مينة"- واصفاً إياه "بالزكرتاوي" وهي شخصيته في روايته "نجوم تحاكي القمر"- في محافظته السويداء لكونه ابن المحافظة قائلاً: « بين محبيه وعشاق إبداعه أهلاً بنصفه المجنون وبنصفه العاقل أيضاً، جنون الشجعان حكمة الحياة»، وختم نصه بقوله: «لمجد الجنون في البطولة ننحني».