المغترب العربي السوري "عبد اللـه الطحان" (1931-1999م) ولد في حي "الشاغور" في مدينة "دمشق" القديمة.. ونشأ في أسرة عصامية تعنى بالعادات والتقاليد، وتحافظ على التراث والمورثات..

دخل إلى ميدان العمل صغيراً وبدأ مكافحاً من أجل كسب لقمة العيش بكرامة، فعمل في بيع السلع الصغيرة.

لكنه لم يجد نفسه في هذا العمل، فتحول إلى ما تميل إليه طباعه من حب المعرفة وكسب العلوم، فعمل بالطباعة منذ نعومة أظفاره.. وهذا ما سمح له بتكوين ثقافة واسعة، حيث كان يقرأ كل ما يقوم بصفّه من الكتب والمطبوعات قراءة تمعن ودراسة.

عمل في العديد من الصحف السورية التي كانت تصدر في حقبة الأربعينيات والخمسينات منها (صحيفة الجبل– صحيفة صبح ومساء– والكثير من الدوريات).

لم يطل به الزمان حتى افتتح مطبعة خاصة به أسماها "الاعتدال" وكانت فراراً لكبار الأدباء فيما بعد.. حيث كان مقررها يتحول إلى صالون أدبي- سياسي- فكري ذلك لأنها تجمع أصدقاء "الطحان" من أمثل "عبد الغني العطري" و"صابر فلحوط" و"جان ألكسان" و"نصر الدين البحرة" و"صقر خوري" و"عادل أبو شنب"، "وليد مدفعي"، "ياسين رفاعية" وآخرين..

أدى خدمة العلم للدفاع عن وطنه الغالي وتم إيفاده هو والكاتب الأستاذ "جان ألكسان" والكثير من الذين عملوا في الطباعة والنشر لتأسيس مطابع خاصة (مطابع الإدارة السياسية) وصدرت أولى مطبوعاتها "مجلة الجندي العربي".

لكنّ حلم "الطحان" لما يتحقق بعد.. فهو يتطلع إلى إيجاد منبر إعلامي يبث من خلاله رؤيته ورؤية المفكرين من حوله..

لهذا أسهم في تأسيس العديد من الصحف والمجلات والدوريات المحلية، كما أشرف على طباعة الكثير من المطبوعات الدورية وغير الدورية.. وعمل في مجالات الطباعة لمؤسسات عديدة.

بدأت خبرته الإعلامية تتبلور آنذاك، وصارت الصحف والمجلات تنشر له الكثير من المقالات والدراسات..

وجاء موعده مع القدر ليسافر إلى "الولايات المتحدة الأمريكية" عام (1979) وهناك لمعت الفكرة في رأسه ووجد لها مناخاً مناسباً حيث أراد أن يكون للمغترب العربي في المهاجر منبر إعلامي ناطق بالعربية للمغتربين العرب، ويكون في الوقت نفسه نافذة له يطل من خلاله على وطنه الأم.. فكان أن أسس "عبد الله الطحان" مع الأستاذ "وليد المعلم" وعضو الكونغرس الأمريكي "وليام باسكريل" والقنصل العام السوري صحيفة "الاعتدال" الاغترابية (1982) التي أصدرها من "نيوجرسي" (قرب نيويورك) في "الولايات المتحدة الأمريكية"، وصدر العدد الأول منها بتاريخ (21/9/1984) وعمل على توزيعها في أنحاء "الولايات المتحدة" وإدخالها إلى موطنه الأم "سورية"، ومن ثم تعدى ذلك إلى الكثير من المدن والعواصم العربية والأجنبية.

ولقد دفع "عبد اللـه الطحان" الفاتورة باهظة بسبب انحيازه إلى القضية العربية الإسلامية حيث أصرّ أن يكون لاعتداله موقف ورأي وحضور ورؤية وأن تشكل سفارة متنقلة وجسر تواصل معاصر، بين غرب يعادي أمتنا وشرق لا يكاد يمد يد العون لأبنائه المهاجرين.

وأثقل مهر الاعتدال صاحبها فقدّم سيارته وبيته وما ملكت أيمانه مستثمراً صداقات العمر وعلاقات المودة لإكمال مشروعه الإعلامي.. هذا بعيداً عن صبره وعائلته على المكاره لكنه استطاع أن يوقف الاعتدال على قدميها لتكون صوت من لا صوت له في المهاجر ومنبراً عربياً وقومياً وحدوياً يتحدث بأفصح لسان وأوضح بيان عن الحق العربي والإسلامي والكرامة المسلوبة والأرض المحتلة.

وفعلاً بات ما يفعله "الطحان" في دياجي الغربة أشبه بالمعجزات.. لأن عمله تنوء به حكومات وسفارات ولا تبالغ إذا قلنا: حتى الجامعة العربية إذا ما تحدثنا عن تاريخ إصدار الصحيفة.

لقد حقق "الطحان" لكثير من المفكرين حلماً أطلوا من خلاله على الغربة وتحدثوا مع المغتربين ولم يكتف بذلك بل راح يبحث عن أمجاد جديدة إضافة إلى ما حقق، فأسس "إذاعة صوت المهاجر" حيث كان بإمكان المغترب أن يرفع سماعة الهاتف ويتصل برقم محدد ليستمع إلى آخر أخبار وطنه الأم.. وهو بذلك تحدى الحدود والمسافات.

وذهب إلى أبعد من هذا أيضاً فأسس "اتحاد الإعلاميين العرب في الولايات المتحدة الأميركية" حيث هدف منه أن يكون قوة إعلامية مؤثرة تقف في وجه اللوبي الصهيوني المتغلغل هناك، كما أراد أن يجمع كلمة الإعلاميين العرب في أرض الاغتراب على موقف واحد مناصراً لقضايا أمته العربية الإسلامية.. وكان لهذا الاتحاد دوره في التأثير على الكثير من صانعي القرار.

"عبد الله الطحان" قام في احتفالات عيد الجلاء برفع العلم السوري على السارية في "الولايات المتحدة الأمريكية"، فمن خلال نشاطات "الطحان" استطاعت الجالية العربية السورية أن تقيم احتفالاً سنوياً دورياً في كل عام بمناسبة عيد الجلاء في "سورية"، واتفق مع محافظ "باترسون" أن يتم رفع العلم السوري على سارية المدينة لمدة أسبوع كامل.

كما أقام الاتحاد الذي ترأسه "عبد اللـه الطحان" العديد من المؤتمرات الناجحة على أرض "الولايات المتحدة"، ودعا إليها كبار الإعلاميين والكتاب والمفكرين من داخل أميركا وخارجها..

وزيادة في الحراك الوطني الساكن في هذا الوطني المخلص لبلده وقضيته فقد عمل على تأسيس "الجمعية الثقافية العربية الأميركية" وكان رئيسها، وكما رسم بسمات على شفاه أبناء وطنه والأوطان العربية حيث كان يستقدم المرضى الذين يحتاجون إلى علاج طبي خاص أو إجراء عمليات نادرة.. استقدمهم بالمجان واستضافهم وأجرى لهم ما يلزم من طبابة وعلاج وأعادهم إلى بلادهم في غبطة وسرور.

استطاع أن يصل الجذور بين الوطن الأم والمهجر فاستقدم عشرات الممثلين وكبار المطربين العرب وكبار العلماء والمفكرين ليحاضروا أو ليقيموا احتفالات للمغتربين العرب هناك.

استطاع أن يحصل على استثناء لأبناء الوطن المتخلفين عن خدمة العلم من السيد وزير الدفاع آنذاك وبمعونة الأستاذ "عبد اللـه الأحمر" (رئيس اللجنة العليا للمغتربين) فاستقدم المجموعات السياحية السورية التي زارت الوطن وارتبطت بجذوره أكثر، ثم عادت من حيث أتت بكل أمن وسلام.

كان شعلة من النشاط وآية في الذكاء الفكري.. ومن أهم نشطاء الجالية العربية السورية في "الولايات المتحدة".. ولم يبخل بقديم يد العون لأي مغترب أراد أن يفتتح مشروعاً أو عملاً وخاصة في مجالات الفكر والإعلام.

أخذ بيد الكثيرين من الشباب.. وقويت أقلامهم في صحيفته واشتدت سواعدهم على يديه.

حرص على المحافظة على العادات والأخلاق والدين ولذلك أسهم في تسهيل أمور الزواج بين المغتربين وأبناء وبناء الوطن.

ظل مخلصاً لرفيقة دربه والتي صبرت معه على الحلو والمر في مسيرته الطويلة فجعل من السيدة "حياة فرج الطحان" شقيقة روح أبدية وكان يفاخر بها أمام الناس.

كما أشرب أولاده جميعاً حبّ الخير والإخلاص لمهنة الصحافة فكان ساعده الأيمن ابنه الراحل الدكتور "سمير الطحان"، ومن ورائه "باسل" و"بشار" و"عمار" وابنته "سمر".

وبعد مسيرة ثمانين عاماً.. آن لهذا الجسد المنهك أن يرتاح فلبت روحه الطيبة نداء باريها في "الولايات المتحدة" عام 1999م.. إلا أن الرسالة لم تنته بعد، فمع أن آخر كلماته لأولاده كانت الوصية بالاعتدال، إلا أن وصيته الكبرى كانت أن يتم دفنه حيث يحب ويهوى في مدينته الأثيرة إلى قلبه "دمشق"..

وهذا ما كان، حيث جاء الجسد تسبقه الروح إلى المدينة الخالدة ودفن في مقبرة "باب الصغير" وسط جنازة مهيبة حاشدة.