توزع الشاعرة رندة حلوم شواغلها الإبداعية بين الشعر وكتابة المقالة الصحفية النقدية، مع ميل واضح نحو الشعر الذي اختارت له التنانير القصيرة والقمصان البيضاء، في مناخات الأدب الوجيز التي تكتفي بـ"بيت القصيد". تسبح قصائدها في بحر التكثيف والاقتصاد اللغوي، ساعيةً لصيد القصيدة الصرفة، الناجية من الترهل اللغوي وملل التطويل.
ولتحقيق هذا الشكل الشعري، أعدّت حلوم أدوات بلاغية متميزة تمكنها من صياغة عالم قصيدتها الخاص، مستفيدة في آنٍ واحد من التراث والرمزية المعاصرة. تنحدر الشاعرة من بيئة ساحرة، هي قرية "تعنيتا" في ريف بانياس الساحلي، حيث المخزون البصري الغني بالجماليات الطبيعية، والغنى المثولوجي، وحمولات الأرض السورية العتيقة، كلها عناصر تلامس تجربتها الشعرية.
"طقوس
بين الكتلةِ والفَراغِ؛
أشكلك مِنْ تِينٍ أو طِينٍ،
وأقِيمُ عَليكَ الحدَّ
إنْ تَسرقْ من دَاليتي العنب.."
في نصوصها، يقرأ الشاعر والناقد أوس أحمد أسعد الكثير من الجماليات والقيم الفنية، حيث تقول حلوم:
"كلّ فجر
أسأل القشرة عن برتقالتها؛
فتبكي،
ويصطاد الدموع
نجم على سطح القمر"
يشير أسعد إلى أن العلاقة بين الفجر والبرتقالة والقشرة والبكاء والنجم على سطح القمر، تتجلى في فعل الدهشة الذي يثيره النص لدى القارئ. المفارقة بين المألوف واللامألوف، وتوظيف المفردات المتنافرة في سياقات جديدة، تولّد أبعادًا دلالية سيموطيقية متكاملة، حيث يمنح الانزياح والخلخلة في وظائف المبنى اللغوي والنحوي الجملة شعورًا جديدًا، ويكسبها العلوّ الشعري الذي يميّز قصيدة النثر.
"عِناق.. جَبلٌ وغُيمة، العِناقُ طَويلٌ
ما شأن الريح؟!"
يرى الناقد الدكتور علي حسون لعيبي أن تجربة حلوم تقدّم لوحات سوريالية تتجاوز المعنى المشاع في النص الشعري، فتظهر خصوصيتها في كتابة النص المتفرد كصفة لأدبها وعزفها الفردي في عالم السحر والأسطورة والجمال. ويضيف أن الشاعرة اقتربت إلى حد كبير من صياغة أسطورتها الخاصة، رغم استنادها أحيانًا إلى الموروث الأسطوري العام، لتقدّم معزوفات مشبعة بالحلم، وتتنقل أحيانًا إلى التجريد، معززة بذلك حرفيتها العالية وأدواتها. حلوم هنا مشبعة بعزف الصوفية وعوالمها ومكنوناتها.
في مجموعتها "العبور الأوّل"، تتضح نية الشاعرة في حياكة اللغة لتناسب روحها المتمردة وأفقها المعرفي، فهي تكرر العبارات وتوازن بين الساكن والمتحرك والكامن والمخفي، لتمنح النص أفقًا أعمق من النص التقليدي. وقد بلغت الحبكة الشعرية ذروتها في نصوص مثل: نرسيس، رأس الظلّ، العرافات، تعال كقديس، حتمية، العاصفة، أبابيل، عناقيد شوقٍ، على حدود ذرة طين، قبل صياح الديك، زوايا... ، إلى جانب نصوص الهايكو وأدب الومضة الذي يتميز بالاختزال والتكثيف والعمق الوجودي، الحامل لقضايا إنسانية واجتماعية مؤثرة.
"أنا.. لم أصبغ شعري بالأحمر،
فقط.. هو نزيف أفكاري.."
يؤكد الناقد أوس أسعد أن تجربة حلوم في الكتابة الوجيزة تحتوي على بلاغة خاصة، إذ تتداخل مستويات التعبير الوجداني والتكثيف الدلالي مع روح أنثوية، تارة شفيفة وتارة متمردة. فهي تكتب من الداخل، من مكان مأهول بالحساسية تجاه العالم، وبذاكرة شخصية وجمعية، لتنتج صورًا ومجازات جديدة تغوي القارئ وتعيد للقصيدة طقوسها الغامضة. كما تتجلى في نصوصها رؤية شاعرية للعالم، حيث الحواس أدوات صادقة، والمجاز وسيلة لفهم الخراب. وفي شعرها، تتجلى أحيانًا نزعة وجودية صوفية، وأحيانًا أخرى سياسية غير مباشرة، دون الوقوع في فجاجة الخطاب أو ضجيج الشعارات.
"في الصف؛ وقف يشرح
إشارات المرور..
في الشارع؛ دخل بحماره
من ممر المشاة.."
تكتب رندة حلوم "القصيدة العابرة" القصيرة، الومضة، لكنها تترك أثرًا عميقًا عند القارئ، ولا تُستهلك نصوصها بسرعة، بل تُقرأ وتُعاد قراءتها، لأنها تتجاوز حدود اللغة لتلامس المدى الإنساني الأعمق.
في "عبورها الأول"، تمشي قصائدها على خيوط الفقد والفرح والذكريات والجنون، مثل نحل يبحث عن رحيق المعنى في فوضى الأزهار. كل شيء في عالمها متحول، واللغة نفسها تتحول من وسيلة للتعبير إلى طقس عبور نحو ذات أكثر حرية. كما تستخدم بلاغة الانزياح لتقليب التوقعات: فبدل أن يتحرر، يغرق؛ وبدل أن تكون الزجاجة رمزًا للمتعة أو الانعتاق، تصبح أداة سقوط، مما يعمّق الدلالة دون إسهاب. وتعتمد على تقنيات الحذف والمفارقة والتوازي والانزياح البلاغي، مستفيدة من الإيقاع الداخلي دون اللجوء إلى الوزن الخليلي التقليدي، لتصبح نصوصها مفتوحة على احتمالات متعددة من القراءة والتأويل، مع روح ساخرة لا ينقصها التهكم.
