يبوح لي الشاعر محمد عيسى قبل "شيءٌ ما" –أولى مجموعاته الشعرية- كان الشعر في نفسي، وكنتُ أشعر بأنني قادر على كتابته، ولكن لم أتجرأ، لا أعلم لماذا، ربما كان الخجل.. ويُضيف: نعم، أحياناً قد يكون لدى الإنسان رغبة في فعل شيءٍ، ولكنه لا يفعل لأسبابٍ عديدة، ومن هذه الأشياء قد يكون الخجل في حالة كحالتي.. سأعترف بأن تربيتي المنزلية زرعت فيّ الخجل تجاه أشياء عديدة ومنها الحب مثلاً.. ففي عام 1987 كان عمري آنذاك خمسة وثلاثين عاماً، وكنت في ظرف ومكان استثنائيين. (طبعاً ليس بالمعنى الإيجابي) كان أفضل ما نستطيع فعله، القراءة والأكل والنوم، والحلم في العالم الخارجي.. ومن خلال هذه القراءات تطورت ذائقتي للأدب، من الشعر الكلاسيكي إلى الشعر الحديث.. كنت أتهيب من أن أخطو الخطوة الأولى، إلى أن رأيت مناماً أقف فيه على جبلٍ وكنتُ أول الواصلين، من بين الجميع الذين كانوا معي وما زالوا على السفح يحاولون الوصول إلى حيث وصلت.. وفي هذا المنام سمعت صوت أنثى جميلاً دون أن أراها، يقول:
"أطلقوا عليه الرصاص،
ثم أيقظوه
فوجد نفسه قد مات."
ويُكمل: استيقظت إثر هذا المنام، وكتبت ما سمعته ثم عدت إلى النوم.. في الصباح قرأتُ هذا المقطع، وشعرتُ بأنه جميل كما هو.. فشجعني هذا الحدث على الكتابة وكان ذلك، فشعرت بأنني الآن وجدت نفسي، تغلبت هذه الرغبة على خجلي، فتجرأت على كتابة الشعر، وقلت ما كان عندي آنذاك..
"تعالَ يا صديقي
هل ترى هذه الصخرة؟
ستلقاني متكئاً عليها،
وعندما يأتي القطار
لا تنس أن توقظني..
لأبدّل..
جهة الاتكاء."
هكذا يعلن "أمير السفر" -كما عنون أولى قصائد مجموعته "شيءٌ ما"- حركة اتجاهاته "البعيدة".. لكن من ذات المكان، أو قل إنه السفر والدوران في المكان ذاته..! هكذا سنحت الظروف، أو كانت هي المساحة التي قُيضت للشاعر السوري محمد عيسى ليقول "بيت قصيده"..!
ف" الليلُ غمدُ النهار، والمساء مقبضه
ولكن الفجر..
هو الطعنة التي تفاجئنا ونحن نيام .
من هذا الحيز الضيق قدّمَ "شيءٌ ما" ذات حينٍ من عام 1992، وذات حينٍ أيضاً من سنة2002، قدم "مائدة البراري"، وبعد ذلك بحينٍ من الدهر سنة 2004، صنع "رتوش ما بعد العاصفة"، إضافة إلى إصداره الأعمال الشعرية في مجلدٍ ضخم.. ومؤخراً وجد أنّ (لا شيء في أوانه)، أحدث ما أصدره من دواوين شعر.. وهو في كلِّ هذه المجموعات الشعرية، كان يلوّن أشعاره، وينوّع عليها، وذلك في كلِّ ديوان من دواوينه، بحيث كان يمنع على التكرار من أن يتسلل ليصبغ هذه المجموعات بلونٍ واحد، وكأنها قصيدة واحدة بتنويعاتٍ مختلفة، كما حصل مع الكثيرين من الشعراء الذين كان همهم القذف بما يكتبون لأقرب مطبعة، لتسجيل أكبرَ عددٍ من المجموعات الصادرة، أو ما سماه عيسى ب"وعي النشر" عوضاً عن وعي الإبداع، وذلك للتسويق عنوةً من خلال المعارف والأصحاب.. ومن ثم ليضع نفسه في حالة سباقٍ مع الكم، وهنا يأتي الإبداع حجماً لا نوعاً.
علامات فارقة
هذا الشاعر الذي اتسمت قصيدته بعلاماتٍ فارقة، جعلتها تأخذ خصوصيتها في المشهد الشعري المعاصر، قصيدة فتح لها الشاعر بابَ التأمل لتبني عمارتها الفلسفية والفكرية والجمالية، فناست بين القصيدة "الوثبة" كما أطلق عليها، تلك التي لا تقف إلا على صيدٍ.. تبدأ ببضع كلماتٍ تمهيدية مُحكمة ومكثفة لا تحتمل السرد ولا الفذلكة اللغوية، وهي ذات موضوعٍ واحد وفكرة وحيدة؛ عليها أن تأخذنا خطفاً بفكرة صادمة معرفياً يسوقها الشاعر خلسةً إلى أن تأتي لحظة الانقضاض والتوقف المُحكم على صيدٍ ثمين؛ لأنّ غايتها في الخاتمة.. وبين متواليةٍ شعرية تحكي سفراً من حياة، أو من جغرافيا، أو مساحة ما، تأخذ القصيدة فستاناً لتزيّن تفاصيلها، تأتي كحكاية، او كرواية قصيرة.
جهات الاتكاء
أي أن الشاعر عيسى بعكس أمير سفره، فالشاعر الذي تقمص ذات "الأمير" وخلال تبديله لجهة الاتكاء، وعندما يمرُّ القطار بجوار تلك الصخرة، كان يتريّث بعض الشيء.. يتأمل قليلاً.. ليكتب دفقه الشعري دفعةً واحدة، ودون توقف.. فكانت له تجربة لا تزال تتصاعد في خطها البياني صوب أحلى الكلام وأعذبه.
" سأطلقُ ماعز القصيدة،
أشمّرُ الريحَ عن ساقي..
أسرحُ النهار بطوله
راكضاً خلف القطيع..
من تيس الصباح
إلى فحل المساء."
وكأنّ الشاعر محمد عيسى، حينما يبني قصائده، يجلسُ متأملاً «المأثور» من الكلام، الذي يبدو له «مأسوراً» في تلك الجمل الجاهزة والنهائية؛ فيروحُ يُناكفها، ويفكُّ لها قيودها، محرراً إياها من سياقاتها، وأطرها المحجوزة فيه من دهورٍ بعيدة؛ ليبني من حجارتها - مفردتها التي هدمها- عمارةَ القصيدة الجديدة.
دون جعجعة
تلك بعضٌ من ملامح القول الشعري في قصيدة محمد عيسى، الذي يكتب نصوصه دون جعجعة، أو ادّعاء محاولاً أن يُضيف ملمحاً جمالياً ضمن النسق الشعري في ديوان القصيدة الجديد في سورية.
وملامح القصيدة عند عيسى، لا تقفُ عند هذا الملمحُ وحسب؛ بل يصرّ على كتابة القصيدة بعيداً عن «الولولة» والبكائية التي كانت من أبرز سمات القصيدة السورية، وهي العادة المزمنة في الشعر العربي.. فاتجه بعيداً عن النواح؛ صوب رسم بسمةٍ ما على الشفاه، رغم وشاح الحزن الشفيف والخيبة التي كانت حافزاً لتوليد المتعة القادمة من تلك النغمة الساخرة، والتهكم الجميل الذي يأتي «كملاط» يربط بين مداميك القصيدة، وبين مجموعاته الشعرية بشكلٍ عام.
مهمة القصيدة
ذلك أن الشاعر «عيسى» وعى مُبكراً مهمة القصيدة إن لم يكن أهم أغراضها اليوم؛ وهي تقديم المتعة، رغم أنه يوصي: على الشاعر الاستفادة من كلِّ نشاطات الحياة بما فيها السياسة ومصطلحاتها، ولكن عليه توخّي الحذر، حتى لا يقع في مطب الرؤية العقائدية الضيقة كحالة احتجاجية توصيفية، فالأصح أن ينطلق من الهمّ الإنساني والوطني المعيش هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، على الأديب ألا يُعفي نفسه من الشأن السياسي والوطني كونه يعمل في الأدب، فالسياسة جزء مهم من المعرفة الإنسانية، وتزيد النص الأدبي ثراءً، كما المعرفة الفلسفية والتاريخية والأدبية والفنية والميثولوجية والنفسية، بل وحتى علم الفضاء والحيوان والنبات إلخ.. فكل هذه المعارف ضرورية لمن يشتغل بالأدب، ليكون النص ملماً بمجمل ضرورات الهم الإنساني وقضيته الوجودية، أو بتعبيرٍ آخر.. مستأنساً بجميع هذه الفضاءات، وهنا قد تأتي مرحلة ما، يتقدم فيها الجانب السياسي أو الإنساني، وأخرى قد يطغى فيها موضوع الحب، أو الإحباط العام، تبعاً للحاجات التي يطرحها الواقع، وهذا مااحتفت به تجربة الشاعر محمد عيسى على مدى البياض، فهو لا يستدعي القصيدة ولا يتوسل إليها، يكتبها ليتخلص من نقها ونكوشاتها، ويريح ذهنه من حملها، وما يقصده هنا هو موضوع القصيدة أو فكرتها، فهو لا يُفضل كتابة قصيدة من دون فكرة جديدة.
"وطنكم صيدٌ ثمين
وطني... زرٌّ مقطوعٌ
أشدُّس عليه قبضتي."
وأسأله: لماذا أصبحت شاعراً، لماذا كان هذا الخيار، ولماذا كانت القصيدة دون غيرها لتكون مجالك الإبداعي؟ ليُجيب: المسألة ليست مسألة خيار.. قد نظن بأن هذا ما اخترناه.. سأقول لك شيئاً: قريتي عبارة عن جبلٍ خلفه مباشرةً سلسلة من الجبال العالية، وتحته سهل الغاب.. إذا نظرت صوب الشرق تنظر إلى الأسفل، وإذا نظرت صوب الغرب يكون نظرك إلى الأعلى، وفي الشتاء يأتي الغيم والرعد والبرق والعواصف من الجهة العالية أي من الغرب. وبما أن هذه الأمور من صنع الله؛ فإذاً الله يسكن في الجهة الغربية لأنها أعلى، وهو من يسوقها إلينا.. هذا ما كنت أظنه.. كنت أفرح كثيراً لمجيء الضباب.. كان الضباب كثيفاً جداً.. وكنت أركض فيه طوال النهار.. ظناً مني بأنني كلما دخلته عميقاً يصبح أكثف.. لم أترك جبلاً إلا وصعدتُ إليه.. كنت أظن أنني سأرى أشياء لم أشاهدها من قبل.. تعرفتُ على جميعِ أنواعِ الطيور والحيوانات والنباتات في تلك المنطقة.. وما زلت أسمعُ صوتَ المطر على سطح البيت، وصوت المزراب ونحن نائمون في الليل.. كنت أنظر طويلاً إلى السماء في الليالي المقمرة لأراقب القمر كيف يركضُ سريعاً صوبَ الغرب، لم يكن يخطر ببالي أنَّ الغيم هو الذي يمشي، وليس القمر. وكان خجلي يمنعني من سؤال أي أحد عن أي شيء يحيرني، وحسناً فعلت، كانت كارثة لو أني سألت وفسروا لي الأمر بشكلٍ منطقي.
ذاكرة المكان
خلاصةُ القول ذاكرة المكان لها الدور الأكبر، طبعاً بالإضافة إلى الاستعداد الفطري الذي يختلف بين شخصٍ وأخر، وكذلك طريقة قمع الأهل في تربية أبنائهم.. كنت أشعر بأنني موجود بجسدي، ولكن هذا ليس كلي.. هنالك عالم افتراضي أو خيالي يكبر معي وما زال. أنا لم أختر أن أكون شاعراً - هذا إذا كنت - إنما شاءت الظروف أن أتجرأ على نفسي وأستبدل أنا بأنا. كمن يضع يده في كيس ويقلب داخله إلى خارجه.
" المطر الذي يهطل من السماء،
ليس بفعل الجاذبية
بل رغبةً منه
بالعودة إلى غيمة."
تقول الشاعرة والناقدة راوية زاهر في قراءتها لأحدث ما صدر للشاعر:" (لاشيء في أوانه): "نصوصٌ تحفرُ بقوةِ حضورها نفقاً من التّيه والحزن، لينقلنا بشاعريةٍ عالية إلى عوالم غريبة تدغدغُ الفكرَ وتحرّك الشعورَ الدفين، وذلك بلغةٍ فارهة وخواتيم مذهلة.. فنهاية النصوص التي مالت في جلّها إلى عالم الوميض الشعري كانت تُحدث دهشةً منعشة وتترك للقارئ فراغات بيضاء يُطلب منه ملؤها كحالةٍ من إشراك المتلقي للشاعر في إبداعه، ومثيرةً نشوته، لدرجة أنها لا تمرّ مروراً عابراً، وهذا ما يحتسب للشاعر؛ احترامه لمتلقيه، واختياره النوعية الراغب بحضورها، وما كان للطفولة أن تمرّ جزافاً من هنا، فحالة شوقٍ ربطت الشاعر بطفولته، من خلال عناوين اختارها بعناية: (عرّ ولاد، بندقية، الطميمة،طفولة، لا شيء في أوانه، حافة الأولاد..)، ليثير حسرةً ربطته بذاك الزمان، الأم، الأخوة، وتفاصيل سرت من عمق الذاكرة.." وتُضيف زاهر: فالديوان بعمقه الواضح وميله إلى اللغة السهلة الممتنعة عجّ بالنصوص الومضية التي يلتقط منها القارئ شذرات نفسية تارةً، وأخرى فلسفية عميقة تارةً أخرى، والتي لا تفتأ تذهله دوماً..
"الحبُّ يهاجرُ كما الطّيور.. الطيور تعود والحبّ لا يعود."