(بئر القديسين 1999) كان أولى خطواته على خشبة المسرح كمخرج محترف، ومن ثم تتالت بعدها الأعمال المسرحية: الحبُّ الكبير، الأقوى، العنزة العنوزية، خواطر، تلاميذ الخوف، ليلة القتلة.. وغيرها الكثير.. التي ينظر إليها اليوم المخرج المسرحي "مأمون الخطيب" كمتتالية؛ وخط بياني في هذه التجربة، وكانت دائماً بالنسبة له تجارب تقوده إلى التفكير بـــ: ماذا عليه أن يعمل بعد، وإلى أين يتجه في العمل المسرحي؟!
"مقطوعٌ من شجرة "
ينتمي الفنان مأمون الخطيب إلى جيل مسرحي وجد نفسه وجهاً لوجه في شبه قطيعة مع جيل الستينيات؛ سواءً من حيث الجمهور الذي انصرف تدريجياً عن خشبات العرض أو حتى من الرواد المؤسسين للمسرح القومي "يذكر أحد النقاد المتابعين للمسرح السوري، والسؤال: هل حقاً يرى نفسه أنه "مقطوعٌ من شجرة "، سواء على صعيد الجمهور، أم على صعيد المشتغلين به ؟
يُجيب الخطيب: يوجد إحساس بالقطيعة، ذلك بسبب نظرة جيل الستينيات إلى الثمانينيات والتسعينيات إلى ماتلاهم من أجيال، فقد نظروا إلينا كأجيال خاوية فكرياً، تنظرُ إلى الحياة بسطحية وعدم مسؤولية ومن دون أي أدلجة سياسية أو فكرية، أمّا على صعيد الجمهور، فالوضع بتقديري أسلس، وذلك بسبب طبيعة العمل المسرحي الجديد الذي يُفترض أن يقوم به، والاختلاف كان بسبب الدراسة الأكاديمية، والقطيعة بتقديري كانت ليست كاملة، بمعنى نحن جيل الثمانينيات والتسعينيات؛ حاولنا أن نُكمل مسيرة مابدأه جيل الستينيات، ولكن بطريقة أخرى، وهي باعتقادي أكثر قرباً من المتلقي، أو الجمهور؛ بمعنى حاولنا أن نجد معادلاً وسطاً؛ بين الأفكار الكبيرة التي كانت تتجه نحو الأدلجة الفكرية وبعض المباشرة في الطرح التي كان جيل الستينيات يتبناها، وبين كسب الجمهور الذي يعيش أوضاعاً إنسانية واجتماعية مختلفة عما كان تعيشه الأجيال السابقة..
أمّا مسألة "المقطوع من شجرة" فذلك بُفسره الخطيب: بمعنى عدم دعم المؤسسات للمسرح وللحركة المسرحية بشكلٍ حقيقي، وفي أحيان أخرى؛ أشّبه المسرح بالفن اللقيط كون الاهتمام به يأتي في نهاية الأولويات الثقافية من الجهات الرسمية والأهلية والخاصة وحتى من المؤسسات الإعلامية نفسها.
أبو الفنون
في الحديث عن الشأن المسرحي في سورية، ثمة ما يُشبه "التراجوكوميديا"؛ فكلُّ من تسأله عن المسرح؛ يُسارع لأن يلقي عليك خطاباً في حكاية شغفه بالمسرح الذي يعتبره أبا الفنون، والممثل الحقيقي هو الممثل على الخشبة بالدرجة الأولى، لكن أغلب هؤلاء كانوا أول من يدير ظهره ل"أبي الفنون" صوب الدراما التلفزيونية.. غير أن ثمة قلة قليلة جداً أخلصت للمسرح، وآمنت برسالته، فكانوا نساكاً على خشبته؛ اكتفوا به فناً وشغفاً، من هؤلاء كان مأمون الخطيب، الذي قدّم على خشبته عشرات العروض المسرحية إخراجاً بالدرجة الأولى، وإخراجاً وكتابة بالدرجة التالية، ولايزال مؤمناً بالمسرح كرسالة ومهنة أقرب إلى الحب، وذلك من خلال البحث لإيجاد الأسلوب؛ ليكن "شبه نهائي" في العمل على خشبة المسرح، حيث سعى دائماً إلى الأفكار الإنسانية الكُبرى مهما كان النص الذي يعمل عليه، محاولاً أن يكون استقرائياً قدر الإمكان لترك بصمة ما في كلِّ عمل، بصمة إنسانية تهدف –على الأقل– إلى شكل من الأشكال المعرفية والتنوير المجتمعي. فأول قانون تعلمناه في الإخراج -كما يقول- هو أن تعمل على مايمسّك كفرد، ويمس مجتمعك كحالة إنسانية تعيش الآن وهنا.
الرائد والمعلم
يذكر الكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل في شهادته عن تجربة مأمون الخطيب المسرحية قائلاً: لم يتأخر "الخطيب" عن جيل الرواد في المسرح القومي، فإذا كانت الريادة هي الأسبقية، فالخطيب كان له قصب السبق في التطرق لكثيرٍ من القضايا الملحة عبر عروضه، وهو كجيل يُمثّل انتعاشاً واضحاً في الريبرتوار الرسمي، فمنذ تقديمه لعروضه: "بئر القديسين، والأقوى، وزنوبيا" جاء مسرحه بنكهةٍ مختلفة عن العروض ذات الطابع التقليدي، ولاينكر أحد أنه كان من أوائل من تصدى لثيمة الحرب في عروضه:"هدنة، نبض، كلهم أبنائي، زيتون، والبوابات.." محاولاً تجسيد الكارثة السورية بعناية مبضع جراح، ومن دون أن ينساق للمباشر والجاهز والتعبوي، وهذا يعكس وعياً مختلفاً بوظيفة فن المسرح لاسيما في أوقات الأزمات الوطنية الكبرى. كما ساند الخطيب في عروضه مجموعة من الممثلين الذين شكّلوا مايشبه تجمعاً داخل فرقة المسرح القومي في دمشق، وأذكر منهم: رنا جمول، ويامن سليمان، وإبراهيم عيسى، وهناء نصور.. واستطاع عبر حرفية المخرج الأكاديمي أن يتخطى عقبات عديدة لإنتاج العرض المسرحي، خصوصاً العائق الإنتاجي الذي يحسب أي مخرج أو مسرحي له ألف حساب عند القيام بتحقيق عرض مسرحي..
ويُضيف إسماعيل: اللافت في مختبر مأمون الخطيب أيضاً هو اشتغاله على مسرح الهواة، ونذكر جميعاً أنه استطاع بنجاحٍ كبير أن يخوض غمار ورشتين مع عشرات من هواة التمثيل المسرحي، وخرج منهما بعرضين للذكرى هما "حكايتنا"- عام 2021 و"هواجس" عام 2023. وفي التجربتين أثبت الخطيب أنه معلم من طرازٍ رفيع، واستطاع أن يُقدّم مادةً فنية ممتعة وعميقة عبر العمل على تقنية الارتجال الجماعي، وتطويع الفرضيات الفرعية للفرضية الأم في كتابة العرض المسرحي.. من هنا أرى أن المخرج والممثل مأمون الخطيب حفر عميقاً في ذاكرة جمهور عريض، وأتاح الفرصة تلو الفرصة لحشدٍ كبير من محبي فن التمثيل ليكونوا في صدارة المشهد الثقافي والفني السوري.
اللعب مع الحظ
وأسأل بدوري الفنان الخطيب: هل تعتبر نفسك "محظوظاً" بعد هذا الإنجاز المسرحي، لاسيما في توفير فرص العرض وإيجاد النصوص وغير ذلك، ربما يحلم بها كثيرون؟ فيُجيب: أرى أنني محظوظ –على الأقل– في توفر فرص، كوني أعمل بشهادتي العلمية، ومع وجود منبر –مديرية المسارح والموسيقا– تبنت توجهي الإخراجي، وذلك منذ أول عرض؛ ولكن الإصرار على تقديم عروض؛ كان وسيلتي للعب مع الحظ؛ رغم العوائق التي واجهت بعض العروض.
الإنساني الشفيف
وأختم مع الكاتب والناقد المسرحي جوان جان– رئيس تحرير مجلة الحياة المسرحية، الذي يقول: مع السنوات الأخيرة من القرن الماضي وأولى سنوات الألفية الثانية كان لابدّ للمسرح السوري أن يجدد دماءه ويفرز أسماء جديدة في الحياة المسرحية السورية، وقد تحقق ذلك من خلال (اقتحام) مجموعة من شباب المسرح السوري آنذاك للحركة المسرحية التي أصابها الوهن في كثير من مفاصلها، وكان اسم المسرحي مأمون الخطيب من أبرز الأسماء التي قدمت نفسها بقوة لجمهور المسرح السوري، وكان عرضه الأول "بئر القديسين" فاتحة هذه العلاقة الحميمة مع الجمهور والممتدة حتى يومنا هذا.. فمنذ عمله الأول المشار إليه كان من الواضح أنّ خطاباً مسرحياً ذا سمة تجريبية وتحديثية أخذ يُهيمن شيئاً فشيئاً على أسلوب تناول المسرح السوري للنصوص المسرحية سواء كانت مترجمة أو مؤلفة محلياً، وكانت السمة الأهم في هذا التوجه؛ التركيز على طرح القضايا الإنسانية العامة، وهو ماعكسه الخطيب في "بئر القديسين" عام 1999 التي تحدّثت عن زوجين كفيفين سعيدَين بحياتهما قانعَين بها، تتاح لهما الفرصة لاستعادة بصرهما، فينبذ كلُّ منهما الآخر، متهماً إياه بالكذب والخداع.
هذا التوجه الإنساني الشفيف تابعه مأمون الخطيب في أعماله التالية، فكانت مسرحيته "خواطر" 2002 التي قامت على أكتاف مجموعة من الخواطر والاسترسالات والذكريات قدمتها ثلاث نساء تعاني كلُّ واحدة منهن من علاقة سابقة مع رجل شكّل الطرف الآخر الغائب في العرض.
ويضيف جان: مع حلول العام 2011 كان لابد لمأمون الخطيب من أن يغيّر من طبيعة خطابه المسرحي بالتوازي مع الحرب الإرهابية على سورية وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية، وقد تجلى هذا التغيير في طبيعة النصوص التي اعتمد عليها للمساهمة في رصد الحرب مسرحياً، فكان عمله الأول في هذه المرحلة "كلهم أبنائي" وهو العمل الذي لم يتناول الحرب كظاهرة بشرية عامة لها منعكساتها الخطيرة على من يعانيها، بل تناولها من ناحية محددة ومؤطرة بإطار الأسرة التي ترصدها المسرحية.. وتوالت أعمال مأمون الخطيب ضمن إطار مشابه، فكانت مسرحياته "نبض" 2014 و"هدنة" 2015 و"زيتون" 2017 وصولاً إلى "ديستوبيا" 2022 والتي بدا فيها شبح الحرب متوارياً خلف التأثيرات الاقتصادية السلبية التي تتركها على شرائح المجتمع كافة.