هذا (التكوين) النسوي الذي يأخذ كلَّ مقدمة اللوحة بجذعٍ نصفي لامرأةٍ مخفية الذراعين، وعلى خلفيةٍ لونيةٍ زرقاء بتواشيح ربيعية باهتة وباردة تُعادل في برودتها وحياديتها المشاعر التي تنضحُ بها مشاعر المرأة المتجسدة في الوجه.. كلُّ ذلك مع الاحتفاء بإبراز الخطوط، ووضوحها، تماماً كصراحة الألوان في تكاوين اللوحة، والتي تذهبُ جميعها صوب حالةٍ طفلية وعفوية. ذلك ما سردته الفنانة التشكيلية لمى ناظم مهنّا في أحد أعمالها الفنية.

صراحة الألوان والخطوط

كثيراً ما تعتمدُ مهنا في لوحاتها هذه على المواربة الفنية، في الشغل على هذه الملامح الجمالية في عشرات اللوحات التشكيلية كأسلوبٍ تُحاولُ أن تتميزَ به في المشهد التشكيلي السوري، وتحجزُ من خلاله مكانتها الفنية اللائقة في صفوفه

وللوجوه ثمة حكاية طويلة للفنانة معها، تقول مهنّا في حديثها لمدونة وطن: مرةً تأتي فُرادى، وطوراً تأتي ثنائيّات، وأحياناً تفعمُ المساحة البيضاء بالوجوه الملونة، وليس بالضرورة أن تكون هذه الوجوه نسوية، بل قد تزدحم بالكثير من الوجوه الحيوانية، وقد ينتهي الجسد النسوي برأس حيوان في مُناكفة للفنون النحتية القديمة في هذه الأرض العتيقة التي كانت تُنهي الجسد الحيواني –ثور أو أسد– برأسٍ بشري، وهنا تأتي إلى الذاكرة تكاوين (أبو الهول) في مصر، أو (الثور المُجنح) في العراق.

الفنانة مهنا في أحد معارضها

وفي رسمها للوجوه بأحجام مختلفة، وهم واحد، تجسد الواقع السوري وفق رؤيتها، بطابعٍ يغلب عليه الحزن والذي يرتسم على تفاصيل الوجه، ولا سيما العيون، حيث تأخذ الخطوط عندها أبعاداً تعبيرية واضحة

مجاز التكاوين

وفي أسلوب لمى مهنّا؛ يُمكن أن يقرأ المُتلقي أكثر من ملمحٍ فني، إضافةً لما أشرنا إليه، منها على سبيل المثال بروز حالةٍ من التزيينية الطالعة من حالة زخرفية ملونة، بحيث لن تسمح لفراغٍ في اللوحة من الظهور، وكأن ثمة خشية لدى الفنانة أو في داخلها من الفقد والفراغ، وميزة هذا المنحى أنه يُقدّم للمتلقي أو مشاهد اللوحة مساحة رائعة من المتعة البصرية الملونة، وهو ما يعني الاهتمام بالشكل، وهو المطلوب من أي عملٍ إبداعي، ولاسيما في الأعمال البصرية، لكن هذا ليس على حساب المضمون، الذي تُعطيه الفنانة مساحته الوضحة في الخطوط وتوزيع التكوينات في اللوحة، وإبراز بعض العناصر الفنية على حساب أخرى، معنية أكثر بالرموز، التي تأتي ك"شيفرات" بينها وبين المرسل إليه مشاهد العمل الفني.

الناقد أبراهيم داوود

توضح مهنا من هنا أنا لا أهتم بالحالة التشريحية للجسد، ولا بوضع التجسيدات والتكاوين في أمكنتها المعتادة، بل كثيراً ما أُخرجها من هذه السياقات التي اعتدنا أن نجدها فيها.. غايتي السعي لحالةٍ مجازية غرائبية إبداعية ملونة، فيها مساحةٍ تهكمية واضحة، يُمكن للمتلقي أن يلتمسها في الكثير من التفاصيل.. تأتي بعفوية الأطفال، وهذا منحى اتخذه الكثير من الفنانين التشكيليين.

البساطة العميقة

لعلّ من أهم ما يُميزه تجربة الفنانة لمى مهنّا؛ هي هذه البساطة العميقة التي تُغلّفها عاطفة جياشة من حيث إنها تُثير الكثير من الأسئلة.. وهي في أعمالها الفنية لا تلتزمُ بالتقاليد المدرسية أو موجة واتجاهات فنية محددة، وإنما تسعى دائماً إلى الاستفادة من هذا التنوع الغني الذي تفرزه هذه المدارس، وعلى الرغم من أن لوحاتها توحي بالتزامها ببعض الاتجاهات كالسوريالية والتعبيرية؛ غير أنها سعت دائماً لأن تصوغ خطوط لوحاتها وفق مدرسة تجمع كلَّ ما سبق، ومن تخرج عنها في محاولة لتحرر نفسها من التفاصيل الصغيرة والقيود التي عادة ما تفرضها "المدرسة" أو الاتجاه الفني على الفنان.

من أعمال الفنانة مهنا

وفي قراءة أخرى

هذه التجربة اللونية الباذخة للفنانة لمى مهنّا يقرأُ فيها الناقد إبراهيم داوود ما يلي: "يجدُ المتابع لتجربة الفنانة التشكيلية لمى ناظم مهنا أنها اختطت لنفسها اتجاهاً فنياً خاصاً لم تغادره إلا نادراً، فهو مزدحم بالأفكار السريالية، محاولةً تقديم أعمالٍ تعبيرية بألوان جريئة، تُذكرنا بالفنان هنري ماتيس وبأسلوبه الوحشي.. وتختزلُ وتلخص عناصر لوحتها التي تُعيد فيها ترتيبها، وفق صياغة جديدة متجددة، معتمدة فيها على تداعيات ذاكرتها الملأى بالصور والمؤثرات والثقافة البصرية المتعددة المصادر والأشكال، وعلى أحاسيسها المتحفزة دوماً، دون افتعال أو قصد، وإنما عبر حالةٍ من التلقائية الساحرة، واللاشعور الجمعي الثري والغني، لنجد أنفسنا في

النهاية، أمام لوحةٍ مُفعمة بالحبور البصري المؤدي باللون كقيمة تشكيلية أساسية ورئيسية فيها.. ذلك لأن الفنانة ترسمُ وتلون وتشيد بناء لوحتها باللون الضاج بالحياة".. ويُضيف داود: تُسقط الفنانة لمى ناظم مهنا من لغة تعبيرها الثرثرة التشكيلية التي لا تخدم ولا تفيد بناء اللوحة ولا تعبيرها، وإنما على العكس تضعف وتعيق الاثنين معاً.. هذه العملية توفر أمام المتلقي إمكانات كبيرة ومفتوحة لالتقاط بوح الفنان ورسالته السرية الغامضة والساحرة المبثوثة بين ثنايا الأشكال والخطوط وحقول اللون، وبعض الرموز والإشارات من أجل هذا نجدها توارب الباب أمام المتلقي، بل وتحول تضليله في عملية الإفصاح عن رغباتها وصبابتها التي لم تتغير، فهي بارعة في تقديم الجمال بأثمار الواقع العادي، والسكون في حضن الشغب والوداعة في جلباب الصخب والوسامة المترفة بين ثنايا الحشد التشكيلي واللوني الكثيف.

اختزال وتكثيف

تقول الفنانة مهنّا: أحاول في لوحاتي اختزال العنصر الجمالي سواء كان من التاريخ أو التراث، أو من الواقع، في محاولةٍ لرغبة البشرية في إيجاد معنى للوجود، ولخلق حاجةٍ هائلة إلى سردٍ شامل في أذهاننا. الذي من خلاله نخلق الوجود كأبطال أو مهرجين في المساحة التي توفرها لي القماشة البيضاء في مجال عملي الفني.

تأتي اختزالات لمى مهنّا مدروسة بعناية رغم كل ما توحيه الحالة العفوية في شغلها الفني، كأن تهتم بالعيون بشكلٍ لافت على حساب بقية الجسد، أو حتى بقية مكونات اللوحة، والتي كثيراً ما تذهب بها لاستطالة أفقية في اتساع العينين، تلك العيون التي طالما تمّ النظر إليها كنوافذ لجوانيّات ما يعتمل داخل الجسد من نوازع وهواجس، التي تبرز في الكثير من مشاعر الحزن والفرح، عيون كثيراً ما تذكرنا بما اعتنى به الفنان المصري القديم زمن الفراعنة من الاهتمام بالعيون التي تمثلها الكثير من ملكات الزمن القديم ونساؤه.