تعود حكاية عشق الفنان "فيصل الذياب" لفن النحت إلى سنوات طويلة مضت عندما كان بداية حياته، ليعمل طوال عقود على صقل موهبته أكاديمياً وعملياً حتى استطاع أن يحجز لنفسه مكاناً متقدماً بعالم النحت ويشارك بمعظم الملتقيات التشكيلية، كما أتقن التصميم والرسم المباشر أمام الجهور، فرسم أهم الشخصيات السياسية والثقافية والأدبية.
شغف الطفولة
نشأ "الذياب" في بيئة ريفية غنية بمفردات الفن والحرف، حيث استمد إلهامه وشغفه من جده الذي كان يتقن صناعة الأدوات والقوارب الخشبية.
يقول النحات "فيصل الذياب"/1963/ من قرية "المسعدية" بالجولان السوري المحتل "لمدونة وطن": "بدأت هواياتي تتطور من طفل يلهو بالأسلاك المعدنية والحجارة واللعب بالطين، إلى صناعة الأشكال والأجسام المتنوعة، وصقلت موهبتي بالعمل أكثر مع أخي في مجال البناء والطين والصلصال ليكون عنصر البيئة هو المنطلق والأساس لاهتمامي بهذا المجال الفني والحرفي وتحقيق أحلامي".
ويضيف: "بعد إتمام المرحلة الثانوية بدأت مسيرتي الأكاديمية بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة، من بعدها بدأت أرسم مستقبل حياتي في التخصص بقسم النحت وصقل الدراسة بهذا التوجه، لأنطلق إلى العمل الميداني في النحت عبر تنفيذ منحوتات لأفراد حسب طلبهم، إضافة للعمل للهيئات حكومية وهذا ما أكسبني الخبرة في المهنة والتفاعلية مع المجتمع في مجال عملي".
مسيرة أكاديمية
يشير "الذياب" إلى أن مسيرته ترسخت بعد نيل شهادة الفنون الجميلة جامعة دمشق عام 1990 من خلال العمل مدرساً في مدارس ريف دمشق لمدة أربع سنوات، ثم انضم إلى اتحاد الفنانين التشكيليين في عام 1995 ليشغل مناصب تدريسية في معهد الفنون التشكيلية والتطبيقية في دمشق منذ عام 2002 حتى عام 2022.
عمل "الذياب" كأستاذ محاضر في مادة النحت في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 2014، حيث شارك في نقل الخبرات الفنية إلى الشبان المتحمسين، وفي عام 2015 وقع على عاتقه مسؤولية أمين سر فرع القنيطرة لاتحاد الفنانين التشكيليين، ثم أصبح رئيس الاتحاد التشكيليين لمدة عامين في2021- 2022، لتكون هذه الفترة الوجيزة زاخرة في تنظيم الفعاليات والأنشطة الفنية وتعزيز التفاعل والتبادل الثقافي، وهذا الجهد المتفاعل جعله -حسب قوله- يؤسس مرسماً خاصاً للتدريس والتدريب الأكاديمي لتعليم الراغبين من الطلاب مبادئ الرسم وتأهيلهم للالتحاق بكليات الفنون الجميلة والهندسة المعمارية.
بيئة الجولان
يصف "الذياب" بيئة الجولان بأنها كنز من كنوز الفن والإبداع بما تحويه هذه البيئة من مفردات الطبيعة الغناءة من بحيرات وسهول وجبال وأشجار وغيرها، وكيف كانت قرية "المسعدية" على ضفاف بحيرة طبرية، من العوامل الأساسية في استلهام أفكاره وصناعة الإبداع نتيجة التأثر القوي بالأشخاص والمكان، فكانت منحوتة وتمثال تلك المرأة المتأملة في مدينة البعث من وحي المكان، من أولى الأعمال كشكل تعبيري ومتأمل يرسخ عناصر تجسيدية كبيرة من الواقع ضمن وجوه تعبيرية فائقة المستوى، وكذلك منحوتة السمكة المصنوعة من الخشب التي جسدت المكان، وصارت تأملاً للفنان من الحنين والشوق والعيش في الذاكرة لتلك البحيرة.
أما بالنسبة للمنحوتة التي كان يقف جانبها والتقطتها أضواء الإعلام والتواصل الاجتماعي ولفتت انتباه الجميع، وكانت صفحة ناصعة في مسيرة "الذياب"، فهي النسخة التي قدمها كهدية للمتحف الأثري بالقنيطرة عام 2008 والتي تجسد منحوتة "الإله حدد".
عن هذه المنحوتة يقول: إنها نسخة نحتها عن تمثال أصلي عثر عليه الاحتلال الاسرائيلي في موقع بيت صيدا القديمة في سهل البطيحة المحتل شمالي بحيرة طبريا، فقدم تلك النسخة المصنوعة هدية للمتحف الأثري في القنيطرة، تعبيراً عن أهمية المكان كموقع أثري وتاريخي زاخر.
تجربة الملتقيات
شكلت فترة الأزمة بعد عام 2011، وسنوات الحرب بالنسبة للفنان "الذياب" تجربة فنية فريدة بالأعمال والملتقيات وتأثر الفنان بما حوله، بعدما حول حجر البازلت إلى صرخة روح ناطقة تجسد تأملات المكان وزمانه، لتكون تلك الملتقيات نقطة مضيئة بالحياة السورية.
يقول الذياب: "الفن السوري خلال الحرب على سورية خلق حالة من التفاعل بين الفنان والواقع من خلال الملتقيات التشكيلية بمختلف المحافظات، وكانت مشاركتي الأولى في ملتقى الجولان للنحت والرسم في العام 2002 في مدينة البعث بالقنيطرة، حيث كان العمل على مادة خام بحجم مترين ونصف بعنوان "امرأة متأملة" واستمر 22 يوماً من العمل، بمشاركة 16 فناناً بين نحات ورسام، كما شاركت بملتقى "اهدن" بلبنان للرسم في العام 2007 والذي شكل تحولاً قياسياً في تنوع الأعمال، ثم جاء ملتقيان اثنان تحت عنوان" سورية جسر المحبة للنحت على الخشب" في العامين 2015 و2018 بقلعة دمشق ، وكذلك الملتقى للمدرسة الوطنية للنحت على الخشب بالعام 2015 في منطقة يعفور، والملتقى القطري للنحت على حجر البازلت في العام 2017 بالسويداء".
شارك" الذياب" أيضاً في ملتقى جرمانا الأول للنحت على الحجر بريف دمشق في العام 2018، والذي يعده بصمة للعمل والتفاعلية وتبادل الخبرات والاحتكاك مع مختلف الفنانين التشكيلين السوريين، كما هو الحال مع ملتقى الفنان التشكيلي الراحل "عايش الطحيمر" للنحت والتصوير الزيتي في محافظة القنيطرة عام 2018، وبعده ملتقى "شير الروم" في لبنان للنحت على حجر البازلت، إضافة إلى ملتقى الفنان "نعيم شلش" للنحت في العام 2020.
تحف فريدة
أما عن المشاركة في جناح الفنون بمعرض "أبو ظبي الدولي للكتاب" في أيار 2023 فيقول الذياب: "هذه المشاركة كانت بالنسبة لي تجربة استثنائية ومهمة، حيث قدمت عملاً فنياً نحتياً مميزاً يشكل تحفة فريدة تمثل تكريماً لثلاث شخصيات ثقافية عربية متميزة، وهم الشاعر "نزار قباني"، والموسيقي والملحن "سيد درويش"، والشاعرة "نازك الملائكة".
ويضيف: "كان هذا العمل الفني عبارة عن جدارية نحت نافرة بتقنية الروليف المباشر على قطعة من الجبس بأبعاد ثلاثة أمتار بمترين، وقد كانت هذه المشاركة الفنية الأولى من نوعها في دولة الإمارات، حيث تم النحت مباشرة أمام الزوار في المعرض، لتمثل هذه المشاركة تعبيراً فنياً عن الاحترام والتقدير لتراثنا الثقافي وتعزيزاً للروابط الفنية بين المجتمعات".
وعن أهم أعماله بمجال النحت اختياره في العام 1994 لتصميم وتنفيذ كرنفال احتفالي وطني محمول على سيارة بطول 7 أمتار في ريف دمشق، وتشكيل منحوتات نحاسية لخيول بالحجم الطبيعي بمديرية تربية الخيول العربية الأصيلة في غوطة دمشق، وإعادة نسخ ونحت تمثال الإله حدد، المكتشف حديثاً في الجولان، وتنفيذ نصب تذكاري من حجر البازلت مع مجموعة فنانين في العام 2018 وهو أكبر عمل نحتي بازلتي في العالم، حيث بلغ ارتفاع العمل ثمانية أمتار، وترميم وتعتيق تمثال صلاح الدين الايوبي أمام قلعة دمشق في عام 2019.
ويشير إلى ترشيحه لتنفيذ نصب تذكاري للرئيس الفنزويلي السابق "هوغو شافيز" من قبل السفارة الفنزويلية في دمشق عام 2021، كما رشحه المخرج السوري "نجدت انزور" لنحت تمثال تدمري واقعي شارك في فيلم "دم النخل"،
إضافة إلى البدء مع مجموعة من الفنانين والمبدعين بتأسيس مؤسسة عشتار للفنون في دبي منتصف العام 2022.
مستوى عالمي
بدوره يؤكد مدير الثقافة بالقنيطرة "أحمد المرزوقي" أن الفنان "فيصل الذياب" شريك في الملتقيات والمعارض التي جرت على أرض المحافظة من ملتقيات الجولان ومختلف الأعمال التشكيلية، مشيراً إلى أن أعماله ترقى للمستوى العالمي وليس العربي فقط، خاصة وأن بصمته الفنية في العمل المنجز يدل على عبقرية فذة في الرسم والتصميم ، حيث كان يعمل على جميع التقنيات من النحت على الخشب والبازلت والرمل والمعدن.
الفنان التشكيلي "زياد قات" يشيد بالفنان "الذياب" الذي يعده قامة فنية رائدة وأحد رموز الفن التشكيلي الذين يحتذى بهم، بما تحتويه أعماله من بصمة فنية مشرفة على مستوى الفن، وبما ساهم به في الملتقيات التشكيلية بالمحافظات، وهو فنان مجدد دائماً في كل عمل يتقنه، أجاد وأبدع وأثبت حضوره.