واصلت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية أداء رسالتها الوطنية والإنسانية بكل جدارة، فرغم كل الظروف ظلت موجودة تؤدي مهامها، وهي التي كان لها الدور البارز في تعريف الجمهور السوري على الأعمال السيمفونية العالمية والأعمال الأوبرالية، وبرهنت للعالم خلال جولاتها بأن الموسيقيين السوريين يتحدثون بجدارة هذه اللغة العالمية.

دروس الأزمة

يتحدث قائد الفرقة المايسترو "ميساك باغبودريان" لمدونة وطن عن الدروس المستفادة من تجربة الحرب، وكيف استطاعت الفرقة أن تواصل عملها رغم كل الظروف، ويقول: «عند بداية الحرب على "سورية" كان ثمة إشكالية كبيرة تخصنا نحن الموسيقيين، عن معرفة دورنا في المجتمع، وما الذي يمكن لنا تقديمه، ففي تلك الفترة انتابنا خوف من إقامة أي فعالية.. كنا نتساءل هل نستطيع أن نعزف؟ هل نستطيع أن نعبر بشكل صحيح عن ما يعيشه مجتمعنا؟ وهل نستطيع أن نختار برنامجاً مناسباً؟ وتالياً استطعنا أن نجد إجابات لهذه الأسئلة، وساهم الجمهور بذلك من خلال وقوفه إلى جانبنا ومطالبته باستمراريتنا وعدم غيابنا عن المسارح».

عند بداية الحرب على "سورية" كان ثمة إشكالية كبيرة تخصنا نحن الموسيقيين، عن معرفة دورنا في المجتمع، وما الذي يمكن لنا تقديمه، ففي تلك الفترة انتابنا خوف من إقامة أي فعالية.. كنا نتساءل هل نستطيع أن نعزف؟ هل نستطيع أن نعبر بشكل صحيح عن ما يعيشه مجتمعنا؟ وهل نستطيع أن نختار برنامجاً مناسباً؟ وتالياً استطعنا أن نجد إجابات لهذه الأسئلة، وساهم الجمهور بذلك من خلال وقوفه إلى جانبنا ومطالبته باستمراريتنا وعدم غيابنا عن المسارح

يتابع قائد الفرقة حديثه بالقول: «المشروع الأول الذي تعلمناه في الحرب وقدمناه، جاء بعنوان "من أجل شتاء دافئ نعزف"، ومن خلاله أدينا العديد من الحفلات الموسيقية، وكان رسم الدخول قطعة لباس بدلاً من ثمن التذكرة، لأجل أهالينا في مراكز الإيواء، وخاصة الأطفال منهم، بعده قدمنا مشروعاً آخر تحت عنوان "اكتشف الموسيقا"، موجه للأطفال في مراكز الإيواء، بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية، وفيه استقبلنا الأطفال ليحضروا تدريباتنا، ويعيشوا حالة الموسيقا ويتعرفوا على الآلات الموسيقية، شيئاً فشيئاً أصبح لدينا رؤية أوضح لدورنا الاجتماعي ولواجبنا الاجتماعي والثقافي، تعلمنا درساً مهماً واستطعنا أن ننقل تجربتنا إلى موسيقيي أوروبا، ففي 2018 كنت بمدينة "هويلفا" الإسبانية، وأثناء محاضرة لي هناك، سألني البعض عن حالنا نحن الموسيقيين مع الحرب، وكيف تعاملنا معها، تحدثت إليهم عن تفاصيل لحظاتنا حين تنزل قذيفة بجانبنا ونحن في الطريق إلى الدار، وأثناء التدريبات، كيف تنفجر القذائف من حولنا ونحن نعزف على المسرح بحضور الجمهور».

ميساك باغبودريان

يضيف: «علمتنا التجربة ماهية دور الموسيقي والموسيقا، والرسالة التي ينبغي أن نؤديها في المجتمع على الصعيد النفسي والثقافي وترسيخ الحالة الإنسانية من جهة والوطنية من جهة أخرى، فضلاً عن زرع الفرح والجمال في نفوس الناس، هذه التجربة يمكن لأي بلد أن يتعلمها منا في حال مرت عليه الحرب لاسمح الله، ويعرف منا دور الموسيقا في ظروف الحرب، بغض النظر عن شكل الموسيقا، كلاسيكية غربية كانت، أو شرقية أو أي نوع آخر، فكل أشكال الموسيقا لها دور مهم في الحروب والأزمات، لاسيما على الصعيد النفسي، والأهمية الكبرى تكمن أيضاً في الحالة التشاركية التي يفرضها الحفل بين الموسيقي والمتلقي، وهذا ماحصل في نشاطاتنا خلال عشر سنوات مرت، حيث شاركنا الحضور مشاعرنا وأحاسيسنا وفي نهاية كل حفل كنا نعود إلى بيوتنا بمشاعر إيجابيه أكثر، لنستطيع أن نكمل الحياة والظروف الصعبة التي فرضتها الحرب».

أعمالٌ مناسبة

وحول الأعمال التي قدمتها الفرقة خلال فترة الحرب، يقول "باغبودريان": «في البداية فرض علينا الواقع أن نقدم بعض الأعمال التي تعبر فعلاً عن الحالة التي عشناها، مثل السيمفونية الخامسة والثالثة لـ"بيتهوفن"، وأغاني موت الأطفال لـ"مالر"، قدمنا الأعمال التي لها طابع درامي، طابع يعكس أحاسيسنا، وشيئاً فشيئاً، تغيرت نوعية الأعمال، أصبحنا نقدم أعمالاً جريئة أكثر، جديدة في برنامجنا، فجاء "مهرجان الأورغن" مثلاً، استضفنا من خلاله عازفين من بعض الدول، وأيضاً عدنا نستضيف قادة الأوركسترا من العالم، وكل منهم بدوره

السيمفونية الوطنية السورية

عبر بطريقته عن تضامنه ومشاركته مع حالتنا السورية، وضمن فعاليات هذا المهرجان قدمنا أعمالاً جديدة كالسيمفونية الثالثة للأورغن والأوركسترا للمؤلف "سان سان"، وغيرها العديد من الأعمال التي كتبت لهذه الآلة، عزفناها لأول مرة في مسيرتنا وذلك بمشاركة عازفين منفردين من العالم، وفي كل مرة كان هناك عمل أو عملان يخصان واقعنا، كما قدمنا أعمالاً لمؤلفين شباب سوريين من وحي الواقع، منها عمل بعنوان "يارا" للموسيقي "صهيب السمان" الذي كتبه كإهداء للإعلامية "يارا صالح"، المذيعة في الإخبارية السورية، بالإضافة إلى أعمال لمؤلفين أجانب كتبوا لسورية، مثل مقطوعة بعنوان "سورية" للمؤلفة الإيطالية "غراسيا بوناسيا"، قدمناها في فترة الزلزال.. لقد أصبح برامجنا أكثر تنوعاً وبألوان جديدة، حاولنا دائماً بأن نكون حقيقيين مع أنفسنا، لنستطيع أن نواكب الحالة النفسية للمجتمع».

الحضور اللافت

استطاعت الفرقة أن تؤسس حضوراً لافتاً تستقطب جمهوراً ذواقاً يرافق الفرقة في كل نشاطاتها، يضيف "باغبودريان": «قبل الحرب كان هناك جمهور اعتاد على الحفلات الموسيقية، ويعرف جيداً طقس الحفل الأوركسترالي، ولكن التحدي بالنسبة لنا كان أثناء الحرب وما بعدها، ففي الحملة التي قمنا بها "من أجل شتاء دافئ نعزف" حضره الكثير من الشباب لغاية المشاركة في الحملة فحسب، ولكن أصبحوا فيما بعد متابعين للفرقة السيمفونية الوطنية، ويحبذون نوعية الموسيقا التي نؤديها، ما خلق تنوعاً جماهيرياً للفرقة، وإذا انتبهنا للتعليقات في الفترة الأخيرة التي تكتب على أي إعلان لحفلات الفرقة في صفحة الدار، نجد هناك من يسأل عن البرنامج، وهناك من يعلق بأن ثمة عملاً لـ"تشايكوفسكي أو بيتهوفن" مثلاً، لذلك ينبغي أن نحضر، هذا يعني وجود وعي جديد ومختلف خاصة عند الشباب بنوعية الموسيقا التي نقدمها، ويعرف ماذا يحضر وهذا مهم جداً، وهذا بدوره ينتج وعياً أكبر بطقس الحضور، كالصمت والإصغاء والتصفيق في الأوقات المناسبة».

فسحة للتفكير

يختم المايسترو "باغبودريان" حديثه قائلاً: «في رأيي الجمهور السوري هو جمهور يحب الاكتشاف والتجريب، وهذا مهم بالنسبة لنا، وأنا أحبذ في نهاية الحفل أن أسمع ردود الأفعال، وخاصة عندما يقول أحدهم هذه الموسيقا أسمعها لأول مرة ولكن أحببتها، أو تلك لم أحبها، ولم أفهمها، الموسيقا الكلاسيكية حتماً هي شيء مختلف عن كل موسيقا الشعوب، حتى في "إيطاليا" ذاتها الموسيقا الكلاسيكية هي ليست الموسيقا الشعبية لديهم، وكذلك في كل دول العالم، الموسيقا الكلاسيكية هي حالة من الموسيقا الأدبية إذا صح التعبير، التي تحكي لغة كل الشعوب، وكل مؤلف يمكن له أن يضع نكهة من موسيقا بلده، وهذا تمييز الأعمال، وبالتالي عندما نقدم الأعمال الموسيقية السيمفونية الكلاسيكية بمختلف عصورها فهي حتماً لا تشبه الموسيقا الشعبية السورية، ولكنها تحاكي جزءاً من عواطف الناس أو تحرضهم على التفكير، ومهم جداً عندما تجعلنا الموسيقا نفكر».

بكل فخر

بدوره يرى الكاتب والإعلامي "نضال قوشحة" أن: «الفرقة السيمفونية الوطنية السورية، ومنذ تأسيسها كانت حدثاً مهماً في المشهد الثقافي والفني السوري، وكانت موجودة في كل الأوقات، لاسيما في سنوات الحرب، وعرفت كيف تتعاطى مع المحيط، حيث شاركت في العديد من الفعاليات الكبيرة كأيام فعاليات وزارة السياحة ومعرض دمشق الدولي، وهي موجودة في صياغات عالمية بتقديمها برامج موسيقية عالمية كعادتها، كما استقبلت العديد من الموسيقيين العالميين رغم الحرب والحصار، ونذكر منهم قائد أوركسترا من "فنزويلا" وأيضاً من "تونس" ومن "لبنان"، ربما الحرب أربكت قليلاً نشاط الفرقة ولكنها لم تستطيع أن تغيبها، بل استمرت على المسارح بشكل يرضينا جميعاً، فهي كانت ولازالت فخرنا واعتزازنا كقامة موسيقية ووطنية معاً».