الأيادي السورية تصنع -رغم الحرب والضغوط والتحدّيات- تجاربها المُهمّة التي تُفضي في بعض الحالات إلى مشاريع نوعيّة تواكب التجارب العالمية، وهذا ما فعله المخرج "أدهم سفر" حيث قدّم مؤخراً عرضاً هو الأول من نوعه في سورية، وهو جزء من مشروعه الفني الكبير الهادف لتفعيل "العروض السمعية البصرية الحركية" في سورية والوطن العربي.

ولادات خاطفة

ينتمي العرض والذي حمل عنوان "contrast_ تباين" إلى العروض التفاعلية المباشرة أي إنه عرض أداء رقمي "سمعي بصري حركي" يأخذنا بتناقضات كبيرة بين الحلم والواقع وعناصره المتعددة، وهو رحلة مع الضوء والجسد والروح، ويعتمد على تجهيزات وكاميرات حديثة تلتقط حركة المؤدي وتحللها لإشارة مرتبطة ببرنامج حاسوبي خاص، فيترجمها إلى أشكال وخيارات لا محدودة من الرسومات "الغرافيك" فيخلق خليطاً مضبوط الإيقاع يصل بتفرّد للجمهور، وهذا الفن هو فن جديد ومعاصر يعمل "أدهم" على إظهاره بكل ما يمتلك من طاقات وفكر وإمكانات.

قد يعتقد الكثير من الأشخاص أن واقع الفنون في بلدنا بعيد جدّاً عن إمكانية صناعة فن جديد أو إطلاقه في ظروف استثنائية، إلا أن للفنان "أدهم سفر" رأياً آخر من خلال تجربته لهذا العرض والتي يستعرضها في حديثه للمدونة.

سفر مع الكاتب سامر اسماعيل

يقول "سفر": "صحيح أنني كنت وفريقي نجرّب عرض هذا النوع الجديد من الفنون، لكن في ذات الوقت كان الجمهور أيضاً يجرّب أن يعيش هذه الحالة الجديدة، وأدركت بعد العرض أن هذا النوع سيثمر وسيعطي نتائج صحيحة عندنا... والوضع العام بضغوطه وتحديّاته لن يكون شمّاعة نعلّق عليها عدم وصولنا لأي غاية، فنحن طاقاتنا أكبر من ظروفنا والإمكانيات البشرية بالحقيقة هي أكبر كنز موجود في هذا البلد، وأؤكد أننا نستطيع أن نواكب التجارب العالمية في هذا الإطار".

للمخرج" سفر" العديد من التجارب التلفزيونية والسينمائية والفرص التي كانت من الممكن أن تأخذه لمكان آخر بعيد عن الفنون المسرحية، لكنّه يميل للمسرح أكثر من أي شيء آخر وهو مساحته التي يجد نفسه فيها، ولعل هذا الحب والشغف نحو المسرح هو سبب جرأته ومغامرته وسعيه لمشروع من هذا النوع.

من أحد اعماله

المختبر المفتوح

منذ أشهر معدودة أسس "أدهم" مع مجموعة من الطلاب والأساتذة من المعهد العالي للفنون المسرحية "مختبر دمشق للفنون السمعية والبصرية"، وهو مساحة واسعة الأفق للتجريب والتفكير والبحث والنقاش والعمل أيضاً، فمنه ظهر عرض "كونتراست_تباين" وهو يجسّد مشروعاً قيد التوسع ليشمل كل الناس الراغبة بمعرفة وتجريب وطرح أفكارها حول هذه الفنون المسرحية الخاصة، وتكمن أهمية المختبر بأنه شمولي، ولن يحصر فكرته في دائرة أشخاص محددين بل يوسّعها أكثر وأكثر في نطاق بحثي واسع الطيف، والميزة الأجمل للعروض التي يمكن أن تأتي من هذا المختبر أنها حيّة وردود فعل الجمهور نحوها مباشرة وحيّة أيضاً.

صاحب مشروع

الحديث عن المخرج "أدهم سفر" لا بد أن يقود إلى الحديث عنه كفنان وأكاديمي، فهو خريج المعهد العالي للفنون المسرحية- قسم الفنون الصوتية والضوئية، وعمل مصمماً للإضاءة والسينوغراف للعديد من العروض المسرحية داخل سورية وخارجها، وأستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، ومؤطّراً للعديد من الورشات الاختصاصية بالفنون البصرية المسرحية، وأخرج الكثير من الحفلات الموسيقية والمهرجانات والفعاليات الثقافية... وهذه الرحلة بتتابعها وزمنها وبكل ما تتضمنه من جهود هي ما جعلت منه اليوم مخرجاً صاحب مشروع.

وعندما سألنا أدهم فيما لو كان الإخراج حلماً يسعى إليه منذ البدايات؟ فاعتبره غير ذلك لأن الإخراج برأيه هو نتيجة أكثر من كونه هدفاً أو شيئاً نسعى نحوه، ويعتبر أنه محصّلة لخبرات وتجارب تؤدي إلى أن يصبح الإنسان صاحب مشروع ويريد إسقاط رؤيته وتطوراته عليه.

عمل قادم

المخرج "سامر محمد إسماعيل" يكشف أنه سيُقدّم مع المخرج "سفر" قريباً عرضاً بعنوان "فصل حواس" في المسرح القومي بدمشق، وخلال وقت قصير جداً ستبدأ تدريباته وهو بالتشارك مع مسرح الشمس في "عمان"، ويطل على اللحظة السورية الراهنة بشكل مختلف ومغاير.

ويضيف: "أدهم فنان متميز ويؤمن بالتشاركية، واستطعنا أن ننجز أعمالاً كثيرة معاً منها عرض بعنوان "النفوس الأباة" في عيد الشهداء، وعروض أخرى شاركت في مهرجانات دولية وحازت جوائز كثيرة منها عمل "ليلي داخلي" و"تصحيح ألوان" و"كاستينغ" وأغلبها كان "أدهم" مصمماً للسينوغرافيا فيها، وعند الوصول إلى آخر عمل جمعنا وهو "contrast_تباين" كنت أنا كاتب النص وهو المخرج وكان العرض محاولة لتقديم مسرح معاصر يستفيد من كل ما وصلت إليه التقنية في العالم، وهو نوع يتطور اليوم في العالم في كل لحظة وهذه تجربة اعتز بها".

الشابة "رفاه محمد" المهتمة بالشؤون الثقافية والمسرحية كانت إحدى الحاضرات للعرض تقول للمدونة: "هي تجربة مدهشة بالنسبة لي، شيء جديد جعلني أتخيل أن أجزاء مني تتماهى مع الضوء والموسيقا التي في المسرح، أتمنى أن يكون هناك المزيد من هذه العروض".

أخيراً نستطيع القول إنه لا أحد يستطيع أن ينكر أن الجمهور السوري اليوم بحاجة إلى أنواع جديدة من الفنون التي نستطيع أن نحلّق عبرها إلى عوالم تعطينا مساحات من الإبهار والبهجة والمتعة الجديدة وربما السيطرة على انفعالاتنا، إن التجربة المستمرة في هذا المشروع السمعي البصري قد يؤدي إلى اكتشاف نظريات جديدة نفسية واجتماعية يحتاجها العالم أجمع ومن يدري!؟