عام 1940، قدّمت المطربة آمال الأطرش (أسمهان 1912 -1944)، مع المُؤلف يوسف بدروس والملحن محمد القصبجي، الأغنية الشهيرة "يا طيور"، والتي حققت نجاحاً غير مسبوق، حتى أن البعض عدّها نقطة علام في التاريخ الموسيقي العربي، لِما اجتمع فيها من عبقرية اللحن والأداء والنظم، ورغم أن زمناً طويلاً مرّ عليها، لكنها لم تفقد أبداً قدرتها على إثارة اهتمام المستمعين، من بينهم الرسام الشاب يوسف يوسف "25 عاماً"، فكانت سبباً في بحثه عن متعلقات أسمهان وأرشيفها، مدة أربع سنوات، ليتمكن أخيراً من الحصول كنوزٍ حقيقية، لم تظهر للعلن سابقاً.

أوّل الحكاية

أحبّ يوسف الرسم، منذ كان عمره خمس سنوات، بتشجيعٍ من عمته، التي كان يُقلّد لوحاتها، وفي فتراتٍ لاحقة، اهتم بالبورتريهات، لكنه مع الزمن، اتجه للتنويع، مُتبعاً عدة أساليب "التكعيبي، البيزنطي، الرومانسي، الغرافيتي"، مع ميله للسريالية لأنها على حد تعبيره، لا تعرف الحدود وتُجسّد الأفكار البوهيمية، ثم كان معرضه الأول في دمشق، العام الماضي، بمجموعة لوحات من عدة مدارس فنية، إلى جانب دراسته في كلية الحقوق، أما حكايته مع أسمهان، فبدأت بالتعرّف عليها، من خلال أداء الفنانة اللبنانية نجوى كرم لأغنياتها، وكان عمره وقتها 14 عاماً، في حين قرأ عنها واستمع إلى أسطواناتها بعمر 20 عاماً، وسرعان ما تعلّق بها.

أرشيف مُنوّع

أثارت أغنية "يا طيور" التي تحدثنا عنها بدايةً، اهتمام يوسف، وفي الوقت نفسه، انتبه إلى الغموض الذي يُرافق الكثير من محطات حياة أسمهان، وهنا انطلق في رحلته، مُحاولاً اكتشاف الحقائق، يقول في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "قررت الغوص في هذا الغموض، عسى أن أصل إلى الحقيقة، ولم أتوقع أبداً الحصول على كل ما حصلت عليه من أرشيف أسمهان، لكنني سعيت جاهداً، لجمع كل ما يخصها خلال أربع سنوات، وكانت الحصيلة 300 صورة وأكثر من 500 مقال، كذلك وصلت إلى جواز سفرها ورسائل بخطها باللغتين العربية والفرنسية، ومذكرات بخطها، مع حوار صحفي نادر أجرته عام 1942". خلال البحث والتقصّي، واجه يوسف صعوبات عديدة، أبرزها كما يقول التواصل مع كثيرين خارج سورية، للحصول على الأرشيف الموجود في مصر ولبنان، كذلك كان لا بدّ من ترميم الصور التي حصل عليها، وتحسين جودتها، وإكمال الأجزاء الناقصة أو التالفة منها،

معرض وجمعيّة

لوحة اسمهان رسم يوسف يوسف

قدّم يوسف كل ما استطاع جمعه، مُضيفاً إليه لوحة رسمها للراحلة، في معرضٍ استضافه المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، في ذكرى رحيل أسمهان الـ 79، مُستثنياً المقالات التي كُتِبت عنها، كي لا يتبنى وجهات نظر أو إساءات، تاركاً أرشيف المقالات إلى خطوةٍ قادمة، يُضيف للمدونة: "المعرض هدية لروحها التي لاقت شقاءً كبيراً خلال حياتها، في سبيل حريتها وكرامتها ووطنها، وهو أيضاً خطوة غير مسبوقة لها أثرٌ فنيٌّ ووطنيٌّ، كان من المفترض أن تُقام قبل سنين، فأسمهان رمزٌ سوريٌّ أهديناه للعالم بفخركبير.

يسعى يوسف حالياً، لتأسيس جمعية لعشاق أسمهان في سورية، تضم أرشيفها ومقتنياتها، وتُحيي ذكراها في احتفالٍ سنويٍّ، يقول عن الراحلة بعد أن اطّلع عن قرب على حياتها: "أسمهان لغزٌ كبير، إنسانةٌ مليئةٌ بالتناقضات الساحرة، فهي بقدر سعادتها كانت حزينة، وبقدر أملها كانت خائبة، وبقدر قوتها كانت ضعيفة، وبقدر شهرتها كانت وحيدة، كانت تمتلك حاسة سادسة وتشعر بالشيء قبل حصوله، لطالما رددت أمام عائلتها وأصدقائها أنها ستموت صغيرة، كانت كريمة بشكل جنوني، جاهزة لكل المخاطر في سبيل تحرير بلدها، وهي حفيدة المجاهد الكبير سلطان باشا الأطرش، أدت مهمتها الوطنية بموافقته".

متاحف وحقائق

الناقد التشكيلي والمؤرخ الموسيقي أديب مخزوم، أشار إلى أن الأرشفة الورقية شكّلت الأساس والمنطلق للأرشفة الإلكترونية، لكن ميزة الأولى برأيه، بقاؤها في متناول عدد محدود جداً ونادر من الأشخاص، الذين يتحملون على مدى سنوات عمرهم، عناء ومشقة التنقيب والبحث، مع التصنيف والتوثيق، مُضيفاً للمدوّنة: "يبقى للأرشيف الورقي قيمته ووهجه ونكهته الخاصة، وهو الأكثر قدرة على المقاومة والبقاء، بخلاف نظيره الإلكتروني، الذي بات في متناول كل الناس من مختلف الشرائح والمستويات، والمعرّض كما هو معروف للغياب والمسح الكلي، بسبب الفيروسات والأعطال التي تصيب الكمبيوتر والأقراص وسواها".

أما عن هواة الأرشفة الورقية الفعلية، أمثال يوسف، فهم على حد قوله "قلائل، يعودون إلى المطبوعات القديمة، وينقبون عن الموضوعات والصور النادرة، لتصبح مكاتبهم أو منازلهم وكأنها متاحف، لكنهم بذلك ينقذونها من الضياع ويُعرّفون الأجيال الجديدة، على كل ما هو نفيس ونادر في تراثنا الفكري والثقافي والإنساني"، وفي السياق ذاته، يقول "في عواصم ومدن الفن الكبرى، تتحول الأماكن التي وُلِد وترعرع فيها عباقرة الفن والأدب، إلى متاحف ومزارات تاريخية، حتى أنها تصبح معالم سياحية تستقطب في كل عام آلاف الزوار، كما تُباع مخطوطات ورسائل هؤلاء والكنوز النادرة الخاصة بمبالغ ضخمة وهذه المبالغ التي يشتري بها الأجانب آثار الفنانين والأدباء والشعراء، لا ترتبط بالمال وحده، بل بمدى تقدير الناس للفن والإبداع والابتكار، وبكل ما يتعلق بالفنان أو غيره". وعن أرشيف أسمهان، الذي استطاع يوسف جمعه وعرضه، فهو يكتسب أهمية خاصة برأي مخزوم، ترتبط بالشخصية الإشكالية للمطربة الراحلة، يُوضح مخزوم: "الوثائق التاريخية النادرة تُقدّم الدليل القاطع على بعض الحقائق التاريخية في حياتها، وهذا ينطبق على الجوانب التي اختلف حولها النقاد في حياة الفنانين الكبار، وجاءت الوثائق لتزيل الشكوك والالتباسات والافتراضات، وتُحوّلها إلى حقائق".