لا يعتبر المخرج باسل الخطيب؛ إسناده أدوار البطولة في فيلم (الحكيم) –إنتاج سنة 2023- للممثلين: دريد لحّام، وصباح جزائري; تكراراً وإنما يأتي الأمر -بتقديره- كتكريس لثنائية بين النجمين، سبق أن اعتمدها في فيلمه السابق (دمشق– حلب)، إنتاج سنة 2018.. وإذا ما فتشنا في الذاكرة الدرامية السورية عن ملامح هذه الثنائية فقد سبق للممثلين أن قاما معاً ببطولة الكثير من أنواع الدراما تقريباً منذ بداياتها خلال سبعينيات القرن الماضي في السينما، والمسرح، والدراما التلفزيونية، وربما لايزال الكثيرون ممن عايش تلك البدايات، يتذكر مسلسلاً كـ(ملح وسكر) إنتاج سنة 1973، ومسرحية (ضيعة تشرين) إنتاج السنة نفسها، وكذلك فيلم (سمك بلا حسك) 1975.. وهو الأمر الذي وجده الخطيب مُغرياً في إعادة البناء عليه في أعماله السينمائية الجديدة..

وفيلم (الحكيم)؛ الذي يأخذ عنوانه أو اسمه من اسم الشخصية الرئيسية التي يُجسدها الفنان دريد لحام؛ يُمهّد صُنّاع الفيلم –ديانا جبور كاتبة، وباسل الخطيب مُخرجاً– منذ البداية لهذا المُصطلح- الحكيم، فهو يُعيد الذاكرة لأكثر من طبيبٍ لقب في الأزمنة العجاف بطبيب الفقراء الذي كان يوماً الوحيد في منطقته، أو يُقدّم خدماته الإنسانية شبه مجاني للناس من حوله، وهو الذي كان يجمع في شغله بين عمل العطارين أو الطب الشعبي، نظراً لندرة الاختصاصات الطبية حينها، أو سيطرة مناخات الطب الشعبي التي كان يمتهنها الحلاقون في الحارات الشعبية، والقرى الريفية، وبين اختصاص الطب أكاديمياً، لكنه الطب العام من دون اختصاص محدد..

هنا حيث يُعالج الأطباء مختلف الأمراض ببضع أنواعٍ من الأدوية والأعشاب.. بمعنى نحن أما شخصية شعبية لا تتردد بتقديم المساعدة الإنسانية لمن يحتاجها، بدأ ذلك بتكثيف ملامح الشخصية التي ظهرت وكأنها قادمة من (العدم)، منطقة أتى عليها الحريق حتى أباد أخضرها، وثمة طبيبٌ عجوز، كأنه يُسابقُ الزمن ليُعيد إليها خضرتها، وربما هو الأمر الذي جعل مسيرة الشخصية، أو برر لها إيقاعها الدرامي الثابت الذي لا تصاعد درامي فيه مهما حصل من أحداث، وإنما بقيت الشخصية على ذات الإيقاع من الطوباوية والمثالية العالية، وربما من هنا يُمكن تفهم غياب حالة التشويق لصالح توصيل مقولات الفيلم ورسائله الرمزية للمشتهى..

يبدأ الأمر هكذا بمشهد (الحكيم) متألماً للمنطقة المحروقة، وفي مشهدٍ آخر يُعالج طفلاً إثر ضربة شمس في قريةٍ بعيدة.. بمعنى يشتغل القائمون على الفيلم على (الرمزية) منذ البداية التي كانت إحدى شواغلهم، إن لم تكن من أهمها.. أي الشخصية المُفعمة بالإنسانية والعامرة بالبناء، وهو ما سيجد مُعادله بالحب لدى أهل القرى المحيطة في أكثر من محنة سيتعرض الطبيب لها خلال الأحداث اللاحقة للفيلم..

تكثيف الرموز في المقدمة، سيقابله تكثيفٌ آخر أكثر مباشرة في الخاتمة، وهي تعاون أهل القرية مع (الحكيم) في استرجاع حفيدته من الخاطفين، ومن ثمّ مشهد توزيع الغراس والشتول لزراعة الأرض المحروقة التي ظهرت في بداية الفيلم، الغراس التي يتناولها أفراد القرية لغرسها من جديد بعد ذلك الخراب الشامل الذي زرع محنة ما، لم تسلم منها عائلة..

تذكر الكاتبة نهلة كامل أنّ المؤلفة تختار عند تصوير الواقع الجديد، رموزاً أصيلة طالما فاخر بها المجتمع السوري، حيث كانت خشبة خلاص حياة أغرقها الفقر والنسيان في الماضي، وهاجمها الفساد والاستثمار في الحاضر، مستندة إلى مبدأ إن الإنسان هو أكثر المصادر الحاسمة في إثراء التجربة السينمائية.. (إيزنشتاين)، فكانت شخصية الحكيم منذ القرن العشرين إلى جانب الأستاذ الذي برع في تقديمه فيلم "الطريق" لعبد اللطيف عبد الحميد، أهم الرموز الاجتماعية التي حققت أنماطاً سينمائية تقوم على مبادئ الخير والرحمة والمحبة في طلب الحياة..

وتُضيف كامل: ورغم تجاربها الدرامية السابقة الناجحة كمسلسل (خريف العشاق وشرف) إلا أننا نجد جبور تسير بحذر وتهيب بين خطوطها الدرامية السينمائية، وتسرد باقتضاب فلا تضيف إلى موضوع الفيلم زوايا هامشية وتفتعل أحداثاً مشوقة ومشاهد مغرية أو صادمة للمتفرج.. وتذكر أيضاً: لو انتقلنا من الرمز الواقعي إلى توليفه السينمائي لدى المبدع باسل الخطيب لوجدنا أنه كعادته يريد إنجاز فيلم واقعي يعرض بطريقة سينمائية ما هو أكثر من الواقع وقد تعمقت تجربته السينمائية بهذا الاتجاه خلال اتجاهه إلى السينما مع ارتباطها بالظروف الاجتماعية الجديدة..

من هنا فإنّ فيلم (الحكيم)، لا يدخل في التعقيدات ولا في النظريات الفلسفية، وإنما كان اعتماده على تجميع قصص بسيطة، هي وقع الحرب على الناس، وإن حاول أن يتم ذلك بعيداً عن التسجيلية والمباشرة، أو التيه في تفاصيل الحرب وأسبابها، ومن هم أطرافها، بل يأتي الأمر بتغليف تلك الحكايات بالكثير من الشعرية سواء التي ظهرت في تشكيل الصورة، أو حتى في شعرية الحوار.. وإنما هي الحرب التي تأكل الأخضر واليابس، وتُخرّب النفوس الهشة.. فبعد حرب طويلة ومضنية وشرسة، لن تأتي أجيالُ الأنبياء بعدها، وككل الحروب سيسود التهتك والإحباط والهجرة ومختلف أنواع الجريمة، وما على أصحاب النفوس القوية، أو قل الذين لم يبق ثمة خيارات أمامها غير الاستجرار من (الضعف) القوة لبثها في النفوس المهزومة والمكسورة الخاطر والعاجزة.. وهنا لا مجال لإصدار الأحكام، ولا للمحاكمات، وإنما التعالي على الجراح والإساءات، ولتكن البداية من تمسيدٍ بسيط على جبين مريضٍ، أو غرس شجرة، أو مسامحة ونسيان الأذية..

و(ليا مباردي) التي ستأخذ دور الحفيدة (ياسمين)، هي من سيأخذ بالسرد ليُشكّل ذروة الأحداث، ودونها لأمسى الفيلم أقرب للتسجيلي عن يوميات طبيبٍ عجوز في الأرياف يقوم بمساعدة أهله الفقراء..

فالفيلم يقوم في مجمله على تجميعٍ لقصص بعض الريفيين كما أسلفنا، والذين سنتعرف على خلفياتهم الحكائية من خلال زيارة (الحكيم) برفقة حفيدته التي تساعده في أعماله الإنسانية.. والحفيدة التي تدرس الفنون الجميلة في العاصمة أو المدينة، هي من نسل عائلة تموتُ نساؤها –الجدة والأم- خلال ظروف الحرب القاهرة غير أن طيف أم الحفيدة (روبين عيسى) ابنة الطيب (شمس) سيبقى حاضراً في تفاصيل حياة الحكيم، ومن هنا كان إصراره في محاولات أحيائهن من خلال شجرات خضراء غرسهن بجوار المنزل، وأطلق عليهن ذات الأسماء.. إذاً نحن أمام مستويين من سرد الأحداث، حكايات من حيوات بعض الشخصيات في القرية، وحكاية الطبيب العجوز جابر وأهل بيته، والتي لا يختلف وقع الحرب عليها، وما جرتّه من مآسي على الجميع، وهنا تبدو بوضوح إشارات الأسماء التي تُعطي نصيب دلالتها لأصحابها: جابر، ياسمين، وشمس.. وما لهذه الأسماء من معادلات البراءة والشفافية والسطوع والإنسانية في الذاكرة الجمعية..

فالحفيدة التي تربت في منزل الجد تحملُ قيمه الإنسانية النبيلة، وهو ما يُذكرنا بفيلم (الطريق) لعبد اللطيف عبد الحميد الذي أخذ التيمة نفسها، وبنى عليها سيرورة أحداث فيلمه، والحقيقة ثمة (مشتركات) متعددة بين الفيلمين تدفع للمقارنة، غير أنّه ليس مجالها هنا في هذا المقال.. فلولا وقوع الحفيدة بين يدي عصابة تمتهن الإتجار بالبشر لاسيما النساء في مجال الدعارة –كما ذكرنا- لبقي الفيلم يدور في إطار تسجيل تفاصيل الحياة اليومية لطبيبٍ عجوز في الأرياف.. وتأتي حادثة الخطف اختباراً لأهمية زراعة النبل والإنسانية بين الناس، فالطبيب ذو الاختصاص العام كان يضطر لأن يُمارس اختصاصات ليست من مجاله عندما أخذ شغل (الداية)، أو طبيب نسائية لتوليد إحدى نساء القرية في بعض اللحظات الحرجة والاضطرارية، بل يصل الأمر به في مشهدٍ آخر كوميدي وطريف لأن يُلجأ لتوليد بقرة أيضاً وهي حيلة عائلة وفتيلتها ومصدر غذائها ورزقها، ومن هنا كان الإصرار على مناداته بـ(الحكيم) وليس بـ(دكتور)، كتأكيد على الشحن العاطفي للمصطلح الذي كان خلفية للحالة البصرية التي هي من سمات سينما باسل الخطيب، والتي لا تبتعد كثيراً عن مناخات سينما عبد اللطيف عبد الحميد، وأقصد هنا (الشحن العاطفي) على الأقل في هذا الفيلم.. حتى أنّ الحفيدة أيضاً التي كانت منخرطة طول الوقت مع الجد في ممارسة الأعمال الإنسانية لاسيما في مرافقته للحالات المستعصية، فهي من كانت وراء إعادة إحدى النساء -ربى الحلبي- من غيبوبة طويلة، بعد أن افتدتها طفلتها، وهي التي كانت تنوي العكس، غير أن شظايا القذيفة كان لها رأي آخر.. الحفيدة التي تقوم بتمسيد أصابع المرأة التي دخلت (الكوما) تقريباً، واستخدمت فيما بعد النقر على (الرق- الطبلة) التي كانت لابنتها لإخراجها من سُباتها، لإنعاش وتحريض ذاكرتها من جديد.. كلُّ هذه الأعمال الإنسانية التي لم يتردد (الحكيم) في الإقدام عليها تمثلت برد الجميل من أهل القرى للبحث عن الحفيدة المفقودة واسترجاعها، بطريقةٍ حالمة رومانسية لا عنف فيها ولا شدّة، فقط ما على رجل العصابة -محمد قنوع في أول وآخر دور سينمائي له- سوى إطلاقها والمُضي في حال سبيله..

يرى السيناريت والمخرج سامر محمد إسماعيل أنّ نهاية الفيلم لملمت كل خيوط القصة، وأنجزت تطوراً للشخصيات الثانوية مع الشخصية الرئيسة في الفيلم. ومع أن حبكة المواجهة تم تأخيرها، إلا أن حبكة الحل في الفيلم استبدلت عنصر التشويق بالمستوى الرمزي، وحافظ المخرج على ذلك النوع من الأفلام التجريبية التي لا يشغلها تأجيج الصراع البوليسي بقدر ما تعتني بتشريح مجتمعات الحرب، والإطلالة على العالم الداخلي للشخصيات، وهذا كان واضحاً من البنية البصرية المحكمة التي وفرها التصوير (ناصر الركا) مع موسيقا (سمير كويفاتي)، فالصورة والموسيقا والكاميرا جعلت الإخراج متماهياً مع تلك اللقطات الرحبة والعريضة للمكان الريفي، حيث تتناقض المساحات الخضراء الشاسعة مع يباس البشر وقلة حيلتهم في إيجاد عيش كريم. كما يرى إسماعيل أنّ الحكيم جابر يبدو هنا نسخة معاصرة عن والي الجزيرة العربية الذي ذاع صيته في صدر الإسلام، وصار في عصره مأثرة لإغاثة الناس والتفريج عن كروبهم إلا أن جابر عبد الودود، في أداء منضبط للنجم دريد لحام، حقق تعاطفاً سريعاً منذ المشهد الافتتاحي للفيلم، عندما تغوص عجلات سيارته القديمة في الوحل أثناء عيادته طفلاً مريضاً، فتنبري مجموعة من أهالي البلدة لمساعدة طبيبهم المحبوب.

وأخيراً نختم بقراءة المشاهد التي جمعت بين النجمين: دريد لحام، وصباح جزائري.. فالمرأة التي غاب عنها زوجها، وتُعاني من مرضٍ عُضال، والذي كان على الحكيم أن يرد دين زوجها الإنساني الذي كان يُصلّح له سيارته العتيقة من دون أجر، المرأة التي ابتليت بابن (رامي أحمر بدور غزيز) الذي لم يأخذ من أبيه أفعاله وصفاته الإنسانية شيئاً، وإنما بقي الناقم ومتعاطي المواد المخدرة الذي يقع ضحية عصابة تتنوّع في إجرامها، وضحية الحرب الطويلة، حيث تنكسر نفسه الهشة وتتحطم مجبرة على خطف الحفيدة.. في تلك المشاهد ستحضر إلى البال كلُّ تلك الثنائيات القديمة بين الفنانين –دريد وصباح- كسيرة حياة مهنية من الشباب.